الأفيون
يوسف جوهر
رائعة من روائع القصة القصيرة العربية أول مره ترفع على حلقات فى النت
تدرس
فى أقسام النقد بالجامعات المصرية والعربية
حلقة ١
-------------------------------------
أحقا ياسيدى الطبيب تستطيع أن تشفينى! إنى لا أرى فى يدك سماعة وحجرتك خالية من أسلحة الجراحة وأجهزة الأشعة... فكيف أنت مستطيع أن تستأصل الداء الوبيل.. أبهذه الصورة على الحائط ما أسمها الأمل أين هو آه باقى واحد... خيط رفيع... دقيق... كأنه وهم.... أممكن حقا أن ينبعث منه نغم.. وأن يوحى بالأمل... حسنا إنى أصدقك... وسأستلقى على أريكتك المريحة وسأتكلم فى الضوء الخافت.... وأطلق لأفكارى العنان.. بلاخجل لن أحبس خاطرآ واحد فى رأسى.. سأعطيك الفرصة كاملة لتحللنى وتغربلنى... من يدرى لعلك تنجح حيث أخفقت العقاقير
............
فى هذه الأيام البعيدة... كنت تلميذة صغيرة.... وكنت أذهب كل صباح إلى محطة قريتنا أنتظر قطار الدلتا الذى يحملنى إلى مدرستى فى البندر المجاور... ولم يكن القطار يصل فى موعده أبدا... فإن العطب كان كثيرا مايصيبه فى الطريق، كما أن بيت السائق كان يقع على الخط... ولم يكن يجد بأسا من أن يربط هناك لشرب كوبآ من الشاى ولم يكن ذلك يضايق أهل قريتنا اللذين تعودوا ذلك.. واستغلوه وصاروا يشيرون للقطار إذا خرج من المحطة وهم فى طريقهم
إليها فلا يجد عم مصطفى بأسا من الوقوف.. وإذا تصادف ورأى زوجا من الفراخ فى يد قروية فإن الوقفة تطول وهو يفاصلها فى الثمن وكانت الوجوه التى تركب القطار من قريتنا معروفة على مر السنين وكنا نستعين بالحديث عن انتظار عم مصطفى وقطاره وكانت المحطة تتحول فى الصباح إلى مايشبه القهوة وقد ساهم "ثعلب" فى ذلك
ولم يكن ثعلب حيوانا ولكنه كان عجوزا طيبا له لحية بيضاء وعينان ثاقبتان تحب النظر إلى بريقهما العسلى، وهو يصنع الشاى تحت شجرة الجميز العتيقة ويوزع أكوابه على الزبائن.
ولم يكن ثعلب طيبا فى شبابه... هكذا كان يقول الناس فى المحطة.. ويعترف أنه كان من رجال الليل... وطالما شن مع العصابات الهجوم المسلح على العزب.. وسحب المواشى من حظائر الخاصة الملكية وكبار الأغنياء وكان يحرص على أن يؤكد أنه لم يسط أبدا على ناس على قد الحال.. ولم يلوث يدية بدم ولا شرفة بالهجوم على عرض..
والمعاصرون لشباب ثعلب كانوا يتغامزون أنه مؤلف قصص كشاعر الربابة الذى يجئ أحيانا إلى المحطة وينسب إلى عنتر والزناتى بطولات من نسيج الخيال.. وعلى أى حال فإن حكايات ثعلب كانت لذلذة، وكان بدنى يقشعر من وصفه لمغامراته ومخاطراته مع العفاريت، وصراعه مع مارد الطاحونه عندما كان يهزأ بالخوف ويمشى وحده تحت ليل بلا نجوم
وكنت أشارك فى هذه المناقشات المثيرة بالاستماع فقط... فإن الأدب كان يفرض على التلميذات الصمت فى المحطة.. وحتى التلاميذ لك يكن يتحدثن إليهم... كلام الأولاد مع البنات كان عيبا فى قريتنا... وكل القرى
كانت أمى تقول لى منذرة "عمرك الأن ثلاثة عشر عاما إلى حملت بك وأنا فى هذه السن... إياك أن ترفعى عينك من الأرض وأنت ماشية فى الطريق"
فإذا كان أبى حاضرآ التحذير فإنه يعلق ضاحكا وهو يلف سيجارته. ويقول معارضا وكأنه فقيه واسع الإطلاع "أولادكم خلقوا لزمان غير زمانكم... بنتك الآن تقرأ الجرنال فهل كنت أنت تعرفين الألف من النبوت " ثم يلتفت إلى مكملا جملته وهو يمر على البفرة بطرف لسانه كانت أمك حاملا بك.. ومع ذلك كانت تشترى بمصروفها حلاوة واسالى حنضل
ولم يكن يكن أبى كاذبآ فإن حنضل كان جروبى قريتنا وكان كل الصبيان والبنات يعرفونه عصاه الطويلة التى يعلق عليها حلواه ويمط منها قطعة بأصابعه كلما أمتدت إليه يد بمليم وكان وجه أمى يحمر كأنه يذكرها بفضيحة وتقول فى خجل فقط الثالثة عشرة وماذنبى إنى كنت أتوحم
ولم يسأم أبى أبدا هذا التعليق ولم تسأم أمى الرد وإنى لأدرك الآن وقد أمتدت بى الأعوام أن نقاشها ذاك كان نوعآ من الغزل
ومع أن أبى كان يطلب أن أفتح عينى ولا أرخيهما إلى الأرض فإنى لم أكن أفعل... وكان مجرد التفكير فى أن يصبح فى بطنى طفل كما حدث لأمى يملؤنى غرابة واضطرابآ وإحساسا بخطر مجهول يقترب منى.... وزاد شعري بالخطر أن أمى صارت تتحدث عن حجزى فى البيت وكيف أن أخوالى غير راضين عن استمرار خروجى وسفرى... لأن ذلك يكاد يكون عارآ... وكانت أمى تشفع ذلك بقولها إن ثيابى صارت تضيق على صدرى بشكل يلفت الناظرين.... ثم تميل على أذنى هامسة:- وهل حدث لك مايحدث للبنات فى سن البلوغ وإذا سألتها فى دهشة ماهو الذى يحدث تغطى ابتسامتها بكفها وتقول لى وهى أشد منى خجلآ ومادام الأمر لم يحدث فليس من الضرورى أن تعرفى الان
************
وكان القلق الذى تبثه أمى فى نفسى بهذه الأحاديث يصاحبه قلق آخر أن أحجز من المدرسة. فقد كانت أمنيتى أن أحصل على شهادة الثقافة وكنت متفوقة على زميلاتى تفوقآ جعل معلماتى يباهين بى المفتشات... وقالت لى الناظرة إنها تستطيع أن تلحقنى بعد الثقافة بمعهد الفنون للمعلمات فى القاهرة... وملأت رأسى بأحلام جميلة عن المستقبل.... إننى مادمت فى المقدمة فإن تعينى فى القاهرة أو الإسكندرية مضمون بعد تخرجى...
وكنت ذهبت إلى الإسكندرية مرة واحدة فى حياتى.... وبعد عودتى شككت أن تكون الجنة بمثل هذا الجمال وصارت الحياة فى الإسكندرية هى حلمى الأول والأخير
يتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق