(رجل في الطابور)
أروع قصة قصيرة في الأدب العربي
رائعة .السيد الشوربجي .الخالدة
انتهي عوض اللة من أداء صلاة الجمعة مع المصلين بمسجد السيدةزينب .... كان يسير في الميدان وقت الصلاة . وجد الناس يتوافدون علي المسجد بأعداد كبيرة .. كل منهم يخلع حذاءه وينفضه ثم يدخل إلي صحن المسجد بعد أن ترك الحذاء لبواب المسجد حارس الأحذية ... وقف لحظات يتامل المنظر ... استهواه الموقف ... فتقدم مع الناس وخلع حذاءه وسلمه للرجل إياه ودخل إلي صحن المسجد وأخذ مكانه بين المصلين وجلس في خشوع يستمع إلي خطيب الجمعة.... تذكر أنه لم يتوضأ ... هز رأسه بينه وبين نفسه واستمر في مكانه حتي قامت الصلاة وصلي مع المصلين ثم لما انقضت الصلاة خرج مع الناس إلي الميدان بعد أن أخذ حذاءه ودفع للرجل قطعة من الفضة جعلت الرجل يلهج له بالدعاء والتحية ... فقد كان المبلغ. غير معتاد بالنسبة للرجل لأن المصلين لا يدفعون له إلا قطعا من النيكل أو البرونز ...
سار عوض الله في ميدان السيدة زينب متمشيا وأخذ يتجول في شوارعها دون هدف ... وأفاق علي منظر الطابور... وجد طابورا طويلا أمام إحدي الجمعيات التعاونية .... شعر بسعادة واندفع نحو الطابور ودون أن يسأل أخذ مكانه بين الواقفين ... الطابور يطول ويطول ... ومع ذلك فأبواب الجمعية كانت مغلقة ... لم يحاول أن يسأل .. كان سعيدآ
منتشيآ .. رغم أن الوقفة طالت .. وحرارة الزحام بدأت تدب عندما فتحت أبواب الجمعية ووقف مديرها علي الباب يدعو الواقفين أن ينظموا أنفسهم حتي ييدأ في توزيع البونات ... وحاول أحد الأشخاص أن يزاحمه ويأخذ مكانه فدفعه بشدة بعيدآ عنه ، وتشبث بمكانه وكادت تنشب بينهما معركة لولا تدخل الناس وحضور أمين الشرطة ... وعندما تلاشي الطابور أمامه وجاء دوره سأله المدير:
:-نعم
:-نعم الله عليك
صرخ فيه المدير ... "عاوز كام"! فسأل "مش عارف ... انتوا بتبيعوا ايه! " صرخ فيه المدير : واقف في الطابور من غير ماتعرف أنت عاوز إيه ...
فقال بهدوء :عاوز من اللي بتبيعوه ... أي حاجه ...."
فكتب له المدير ورقة وأعطاها له ... كانت تعليقات الجمهور قد بدأت تنهال عليه بالسخرية ... لم يأبه بالتعلقيات واندفع مع المندفعين نحو الخزانة ..أخرج خمسة جنيهات وقدمها لعاملة الخزانة فاخذت جنيهين وأربعة قروش وردت إليه الباقي وأخذ البون وأسرع مع المسرعين إلي حيث اتجهوا وجد نفسه أمام الجزار ... والخراف المجمدة معلقة ... أشبه بجثث الموتي في أكفانها ... لكنها أكفان من الشحم والدهن والجزار يضرب فيها بالساطور ويزن ويلف في الورقة بسرعة
ديناميكية ...حتي جاء دوره ... دفع البون إلي الجزار وتناول الجزار فخدة وهوي عليها بالساطور فقطع نصفها ثم للم له من لحم البطن والشحم بقية الكمية ولفها في ورق الجريدة ودفعها إلي صدره ليحتضنها وينصرف ....
-نظر إلي اللحم الملفوف الذي يحتضنه وابتسم لنفسه ثم عاود السير في الطريق وهو يحتضن اللحم بعناية ... ظل يسير حتي وجد نفسه في ساحة واسعة تحيطها المدافن...جلس علي قطعة حجر كبيرة ليستريح... كانت لفافة اللحم لاتزال في يده ... وجد كلبا يجري وراء كلبه .. أخذ يتفرج علي المنظر... وضع ورقة اللحم أمامه علي الأرض ثم تناول قطعة كبيرة منها ودفع بها إلي الكلب . ترك الكلب كلبته وجري نحو اللحم . وجاءت الكلبة مسرعة وراءه ... ثم توافدت الكلاب من كل نحاية وصاحبنا سعيد بالمنظر ...تأكد أن اللحم صالح للأكل لأن الكلاب أقبلت عليه بشهية . فظل يلقي إليها بقطع اللحم قطعة قطعة حتي أفرغ الورقة وأخذ ينظر إليها وهي تنهش اللحم وتتشاجر وتتقاتل حتي انتهت المعركة بانتهاء اللحم .
-في المساء ارتدي عوض الله أفخر ثيابه ووضع العطر والوردة الحمراء في جيب الجاكتة وخرج بعد أن قال لوالدته
:-لو سأل عني وزير المالية أخبرية أنني سأمر عليه باكر في الثامنة صباحآ ..
هزت أمه رأسها بهدوء وقالت :-حاضر ....
-في قاعة صلاح الدين بفندق الشيراتون كان السفير الياباني وحرمه وعدد من رجال السفارة يستقبلون المدعوين لحفل الاستقبال الكبير الذي تقيمه السفارة بمناسبة عيدها القومي ...تقدم عوض الله بكل الكبرياء والهيبة والعظمة وصافح السفير وحرمه وباقي المستقبلين الذين استقبلوه بترحاب شديد ثم مالوا علي بعض ، كل منهم يسأل الآخر ... أتعرفه ...! من هذا ! لكن عوض الله لم ينتظر حتي يسأله أحد .. كان يوزع ابتسامته علي الموجودين ... ويتقدم إلي البعض مصافحا بحرارة .. وشرب عددآ من كئوس الويسكي وتناول المزة وخاصة من الجمبري حتي دارت رأسه فترك المكان وعاد إلي بيته سيرآ علي الأقدام ... وجد والدته جالسه تتفرج علي التليفزيون مع شقيقته الصغري .. ألقي عليهما التحية ثم سأل والدته .. ألم يتصل به مكتب رئيس الوزراء .. قالت الأم ..لا .. قال :-لايهم .. ثم دخل غرفته حيث خلع ملابسه ونام ...
في مقهي ريش بشارع طلعت حرب جلس عوص الله يشرب القهوة .اضطجع علي المقعد وأخذ يدخن سيجارته بتلذذ واستمتاع تراءت إلية أصوات مجموعة من الشباب كانوا يجلسون في المنضدة المجاورة .. كانوا
يتناقشون في السينما .. ..أخذ يتصنت إلي حديثهم ثم سحب كرسيه واستأذنهم في أن ينضم إليهم ..تبادلوا نظرات الدهشة .. لكنهم رحبوا به ابتسم لهم وسألهم عن مشاكلهم ..
قال لهم :-إنه صديق شخصي لوزير الثقافة وأنه علي استعداد لمساعدتهم ... التف حوله الشباب بفرح وبدءوا يتحدثون عن الفرصة التي يحملون بها .. قدموا إليه أنفسهم .. اثنان منهم من خريجي معهد السينما قسم الأخراج ... واثنان من خريجي معهد الفنون المسرحية .. واثنان من طلبة الجامعة . والكل يجمعهم حب المسرح والسينما وأحلام الوصول والنجومية .. أخذوا يحكون له عن أنفسهم ومواهبهم وأفكارهم الجديدة .. وعرض عليه أحدهم فكرة فيلم جديد عن أزمة الشباب المصري من خلال أزمة الإسكان والبحث عن شقة بدون خلو .. وضحك زملاؤه وقال أحدهم .. بدون خلو إذن سيظل صاحبنا يبحث إلي يوم القيامة ، وتحدث خريجو معهد المسرح عن أزمتهم هم وشعورهم بالإحباط بعد التخرج وكيف أن الفرص كلها متاحة للوجوه المعروفة فقط بينما الجميع يتجاهلون الشباب والمواهب الجديدة .. استمر الشباب يتحدثون ويحاولون كسب صاحبنا إلي قضيتهم وكانوا يتحدثون بحرارة وأمل .. وقبل أن ينتهي الشباب من حديثهم ابتسم لهم عوض الله ثم وقف واستأذن في الانصراف دون أن يقول لهم شيئا .. وظلوا مشدوهين ذاهلين ، وهم يتابعونه وهو يبتعد عنهم بخطوات واثقة متعالية حتي اختفي . وفي ميدان التحرير شاهد جنازة أمام مسجد عمر مكرم فاندمج وسط المشيعين ثم أخذ مكانه في طابور المعزين وصافح أهل المييت بحرارة ..
وفي أحد الأيام وجد طابورا صغيرا أمام أحد المستشفيات ..جذبه الطابور .. أخذ مكانه بين الواقفين ..كانوا خليطا من الرجال والنساء سأله أحدهم هل حللت فصيلة الدم .
لم يفهم .. أعاد عليه السؤال .. أبتسم له عوض الله بكبرياء وشموخ ،وقال نعم .لم يفهم ماذا يريد هؤلاء الناس وماذا يشترون .. لم تكن هناك جمعية ولا بضاعة .. لاحظ أن كل من يأتي عليه الدور يفتح له باب حجرة يقف عليها تمورجي .. يدخل .ثم ينغلق الباب وبعد لحظة يفتح الباب ليدخل شخص آخر دون أن يعرف مصير الذي دخل قبله . وظل عوض الله واقفا في الطابور ... حتي جاء دوره فدخل .. وجد طبيبا وممرضات وأجهزة ورجلا يمد ذراعه وحقنة طويلة تنغرس فيها لتسحب منها دمه .. شعر برجفة لكنه لم يتراجع سألته الممرضة عن فصيلة الدم فهز رأسه دون أن يجيب أحالته علي ممرضة أخري سحبت كف يده وغرست إبرة في أصعبه حتي برزت نقطة دم أخذتها علي لوح صغير من الزجاج وطلبت إليه أن ينتظر قليلا . بعد لحظات أعطته ورقة بفصيلة الدم ودفعت به إلي الدكتور الذي تناول ذراعه وغرس فيها الإبرة الطويلة وبدأ في سحب الدم من شرايينه ببط وأثناء ذلك سألته الممرضة كم لترآ تريدنا نأخذ فابتسم لها ولم يرد .قال الدكتور يكفي لتر واحد يبدو أنه مضطرب سحبت الممرضة اللتر ثم أعطته ورقة ودفعت به إلي موظف يجلس قريبآ منها أحذ منه الورقة ونظر فيها ثم قدم إليه خمسة جنيهات أخذها دون أن يسأل وخرج من باب خلفي أدرك في هذه اللحظه أنه باع دمه بخمسة جنيهات .......وأن هؤلاء الواقفين في الطابور لم يكونوا يشترون هذه المره ،
وإنما كانوا يبيعون شعر ببرودة تحتاج أعصابه لم يأبه بشي وظل يسير ...
وجد نفسه أمام يافطة كبيرة مكتوب عليها وزارة التموين ... اقتحم المبني دون أن يسال أحدآ ،
،،،،، ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
ودون أن يسأله أحد ،وبكل الشموخ والكبرياء سأل أحد السعاة عن مكتب الوزير أشار له الساعي إلي المكتب ..اتجه مباشرة اليه .. فتح الباب .. وجد نفسه وسط حجرة كبيرة بها عدد من كبار الموظفين . وبعض الرجال المنتظرين .. تقدم إلي أحد كبار الموظفين وسأله إذا كان الوزير موجودآ
:-أيوة موجود
:-إذن لو سمحت أريد مقابلته
:-هل هناك موعدسابق
:-لا
:-ماهو موضوع المقابلة
:-موضوع شخصي ، قل له عوض الله .. نظر له الموظف متفحصآ
كانت ملامحه توحي بالثقة والكبرياء قال له الموظف انتظر سيادتك دقيقة واحدة
-دخل الموظف إلي مكتب الوزير .. كان الوزير منهكما في المناقشة مع وكيل الوزارة حول رسالة الخراف المجمدة الجديدة فجاة نظر الوزير لوكيل الوزارة وسأله
-هل ذقت هذه الخراف
-أعوذ بالله .. إنني لم اذقها
-إذن لماذا تقول أعوذ بالله
-علي أي حال نحن لسنا في حاجة لتذوقها المهم أن الجمهور يقبل عليها بشراهة ..
هز الوزير رأسه وقال
-فعلا ، هذا هو المهم الجمهور هو من يهمنا ،
وقال الموظف الكبير للوزير هناك من يريد مقابلة سيادتك دون موعد سابق
-من..
-رجل محترم اسمه عوض الله
-عوض الله .
حاول الوزير أن يتذكر
قال الموظف يبدو أنه صديق شخصي لسيادتكم ، لأنه يقول أنه يريدك في موضوع شخصي ... قال له الوزير :دعه يدخل ..
ودخل عوض الله .. تقدم نحو الوزير بخطوات ثابتة وابتسامة رقيقة .. أخذ الوزير تفحص وجهه وهو في غاية الدهسة ... حينما وصل إليه عوض الله مد يده نحو الوزير مصافحا حاول الوزير أن يتذكر .لكن عوض الله لم يترك له فرصة أخذ يصافحة بحرارة ويشد علي يده .
ثم قال له : الواقع أنني كنت أمر أمام باب الوزارة ؛فقلت لنفسي لابد أن أقابل الوزير
-خيرا .. ماهي مشكلتك
-لاأبدا ليست هناك مشاكل كل مافي الأمر أنني أردت أن أراك وأصافحك
-لكن من أنت
-أنا عوض الله
- عوض الله لكنني لا أذكر أننا كنا أصدقاء
-من قال ، إننا أصدقاء
-طلبت مقابلتي لموضوع شخصي
-فعلا لم يكن لي هدف آخر من المقابلة غير شخصك...كنت أريد رؤيتك ومصافحتك .. ظل الوزير مشدوها لحظة ..وقام عوض الله . واستأذن في الانصراف حتي لا يعطله عن مشاغله ودون أن يرد الوزير أو يأذن له خرج عوض الله وترك المكان والوزير يشيعه بنظرات حيرة وذهول ..
- أمام مكتب الوزير وقف الساعي محييا فابتسم عوض الله وأخرج من الجنيهات الخمسة التي قبضها ثمنا لدمه ودسها في يد الساعي عندما نظر إليها الساعي كاد يسجد أمامه من الامتنان والفرحه وظل يسير خلفه ويدعو له حتي خرج
آخر المطاف كان في المدبح . وجد نفسه أخيرآ في ساحة واسعة يختلط فيها الدم باللحم بالطين .. ومره أخري يجتذبه الزحام
لم يكن طابوآ هذه المرة..لكنه كان تجمعا كبيرآ من الناس وثمة صيحات وصرخات ،بنت صغيرة ينبعث صوتها من بين الجموع. متحشرجا مخنوقا واندفع كالسهم .. أخذ يشق طريقة بين الجموع بيده الحديدية حتي وجد نفسه في قلب المشكلة ..دكان صغير للجزارة وصاحب الدكان يمسك بفتاة يهددها بالساطور وإن هي لم تعترف أين ذهبت بالفلوس والفتاة تبكي وتقسم أن الفلوس ضاعت منها ولاتدري كيف وأين وتقدم عوض الله بهدوء وثقة نحو الجزار ... ومد يده فأخذ الفتاة من بين يديه
واضطرب الجزار لحظة فترك الفتاة وشعرت الفتاة بالأمان فاندفعت إلي صدر عوض الله وأخذت تبكي وتستنجد به وتطلب إليه أن يخلصها منه وأن يعيدها إلي أمها في الفيوم فهي لاتريد العمل بعد الآن في بيت المعلم وابتسك لها عوض الله وطمأنها أنه سيعيدها لأمها وأفاق الجزار بعد لحظة المفاجاة الأولي وتقدم من عوض الله يسأله .. ومن سيادتك
فهز عوض الله رأسه ولم يجب .. ثم أخذ الفتاة من يدها وهم بأن يخرج بها من وسط الجموع .. لكن الجزار اعترض طريقة وقال له قد أضاعت عشرة جنيهات وأنه لن يتركها حتي ترد إليه المبلغ أو يشرحها بالساطور . حاول عوض الله أن يزيحه بعيدآ عن الفتاة .. أقسم الجزار أن يقتلها ويقتله ويقتل أي شخص يتعرض لحمايتها منه مالم يسترد الجنيهات العشرة ، دفعه عوض الله بشدة ثار الدم في رأس الجزار وتناول الساطور ثم رفعه في وجه عوض الله وقال له :
إن لم تتركها فسوف أشرحك به .. لكن عوض الله لم يهتز.. ظلت الفتاة متشبثة به ..مد المعلم يده ليأخذ الفتاة تحت تهديد الساطور دفعه عوض الله بشدة فهوي الجزار بالساطور علي رأس عوض الله في لحظة مفاجئة خاطفة ..لم ينطق عوض الله .. انفجر الدم من رأسه .. صرخ الناس بجنون وصرخت الفتاة بهستريا .. ألقي الجزار الساطور علي الأرض واندفع يجري كالمجنون سقط عوض الله جثة هامدة وسط بركة من الدم ..
-في نفس اللحظة من اليوم التالي كان هناك عدد كبير من علية القوم يتجمعون في سرادق بجوار مسجد عمر مكرم . ولم يستطع عوض الله هذه المرة أن يمشي في الجنازة .. لأنه كان محمولا علي الأعناق
{جريدة الأهرام ديسمبر 1980}
ملتزم البحث واستخراج الروائع والنشر
الصحفي أحمد محمد أبورحاب محمد
باحث بوزارة الثقافة المصرية
القصة أول مره تنشر في النت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق