الاثنين، 21 مايو 2018

عندمت يبكى الصمت بقلم هدى حجاجى


تعاد تشتكي بلقاء الأوراق علي مدي ربع قرن عشناها معا علي الأوراق وبين السطور وبرغم من انه كان اللقاء فريدا أو متفرداً لقاءاً ضجيجه الصمت وثرثرته النظرات وصراخه الهمسات ورغبته الاحتضان فالتوحد فالذوبان فالتلاشي  ولا تسألني عمن أحببت هل هو خلال تلك السنوات الماضية هل هو والدك أم لا أن الإجابة معروفة فالسجين لا يعشق سجانه ولكن فقط يخاف منه ويسعي إلي إرضاءه ولكنه لا يحبه  وقد كان بيني وبين والدك عشرين عاماً لم يتم زواجنا عن حب أو اختيار مني كلا لقد نشأت وسط عائلة تتفنن في وأد الحب وقتل الاختيار النساء لأزواجهن  كأن الحب وصمة عاراً والاختيار رزيلة  لقد كان علينا السمع والطاعة  وكان عليهم الأمر بلا شفاعة كأننا كائنات ولدت لتستعبد أو ولدت لتموت وسط ركام التقاليد الزائفة والعادات الظالمة المجحفه
لقد اختاروا لي زوجي بعد أن بتروا لساني بسكين الخوف فلم أمانع لقد كان الخوف الحبل السري الذي يربطني بكل من حولي لقد حكم علي المجتمع أن أظل سجينة لقضبانه مدي الحياة  أن حياتي لم تكن سوي سجناً لا يتغير فيه إلا السجان لقد انتقلت ( النوبتجية ) من أبي إلي زوجي ومن زوجي إلي ابني القاسي الذي ورث كل رزالات والدة ومعتقداته وعجرفته
هل يغضبكٍ أن اصف والدكٍ الراحل بالرزيلة والصلافة والقسوة ؟ لقد كان كذلك بالفعل فاعذري يا ابنتي صراحتى وصدقي واسمحي لي أن أحدثك للمرة الأولي بما اختزنته طويلا في حوصلة الصمت والخوف والمرارة لقد كان والدكٍ يعاملني كجارية أهداها له والدي  جارية لها حق في الطعام الشراب والهواء ولا حق لها في سواهم لقد جردني والدك من أدميتي فحولني إلي آلة تطيع بلا تفكير وتضحك بلا فرحة وتعيش بلا رغبة حتى الحزن المقدس حرمني منه كلما رآني في خلوتي
احاول استحلاب البكاء لقد علمني البكاء بعيون جافة تشتاق إلي الدموع ولا تقدر عليها وحينما مات والدك لم اصدق ذلك وكيف يشعر المسجون برحيل سجانه إلا إذا كان القيد مازال ملتف حول عنقه . لقد تركني جارية جُلبت علي الاستعباد والطاعة العمياء رحل الزوج فأكمل الابن الرسالة وحصل الابن علي سلطات السيد الوالد واخذ يمارسها علي امة وشقيقته اخذ يمارسها عليّ وعليكي فستيقظي من غفلتك الضعيفه وتعالي نبكي سوياً فنحن معشر النساء ليس لنا سوي البكاء 
أنا أحب هذا الأديب الكبير منذ ربع قرناً وأبادله الخطابات منذ خمسة وعشرين عاماً بلا فتوراً بلا ملل  هل يكون ذلك عبثاً لا يهم فانا سعيدة بهذا العبث
ثم إذا كان كل شئ في الحياة عبثا فما ضرنا لو عبثنا قليلاً ؟ فلا تغضبي من هذا الحب فلقد تعبت من محادثة نفسي

الأربعاء، 16 مايو 2018

تضمن مختارات من مشاركات الرواد وتقارير حول مراحلها وتطوراتها: المجلة العربية تحتفي بصدور 500 قنديل في سماء الثقافة.. والريادة تمتد


احتفت المجلة العربية بمناسبة صدور عددها رقم 500 متزامناً مع حلول شهر رمضان المبارك.. مستعرضة على امتداد صفحات العدد 500 الاحتفائي محطات وعلامات بارزة ضمن مسيرة المجلة خلال 499 عدداً السابقة توالى إصدارها طيلة أكثر من 40 عاماً منذ صدورها..
وحمل غلاف العدد الاحتفائي عنوان (500 قنديل في سماء الثقافة.. والريادة تمد) في إشارة واضحة ومعبرة عن إسهامات المجلة عبر إصدارتها وأعدادها في رفد الفعل الثقافي العربي إلى جانب عزم المجلة على مواصلة الريادة والصدارة وامتدادها..
وتضمن الغلاف الداخلي رسماً تشكيلياً للملكين فيصل وخالد رحمهما الله وإلى جوارهما خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز يحفظه الله مستصحباً تدوينة قصيرة توضح خلفيات تسمية المجلة بـ (وصية الفيصل).. تلاها كلمة رئيس التحرير الأستاذ محمد السيف الذي استعرض بدايات المجلة وسياساتها وتحولاتها وأبرز جوانب التطوير التي شهدتها مؤكداً في ختام افتتاحيته على أن القارئ العربي هو رصيد المجلة الأثمن ووقودها نحو مواصلة الريادة والزيادة.. كما استهل معالي وزير الثقافة والإعلام الدكتور عواد العواد مواد المجلة بكلمة شاملة استعرض من خلالها جهود المملكة في خدمة الثقافة والمثقفين..
كما اشتمل العدد على مختارات شعرية وقصصية ومقالية وسيرية وحوارية لنخبة من رموز ورواد الثقافة والفكر والفن والمعرفة والأدب في العالم العربي مثل الأمير عبدالله الفيصل والدكتور غازي القصيبي والشاعر عمر أبو ريشة والدكتور منصور الحازمي والشاعر زكي قنصل والدكتور مصطفى محمود والأديب محمد السنوسي والقاصة سلمى الحفار الكزبي والشاعر محمد حسن فقي والشاعر محمد الثبيتي والأديب عبالعزيز الرفاعي والدكتور عبدالله ناصر الفوزان والمفكر مصطفى أمين والأديب محمد حسين زيدان والشاعر إبراهيم مفتاح وأول زاوية لأبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري في المجلة "تباريح" بعنوان (لا أكثر الله سوادكم أيها الشعراء) والأديب سباعي عثمان والأديبان إيليا أبو ماضي وسليمان العيسى والشاعر طاهر زمخشري والأديب عبدالله الجفري والأديب أحمد الصافي النجفي والدكتوره سعاد الصباح والأدبيتان ليلى العثمان وسلطانة السديري والأستاذ عبدالله الشيتي والشاعر يحيى السماوي ..
كما اشتمل العدد على نحو 500 توقيع من مثقفين وأدباء وإعلاميين وكتاب وفنانين من مختلف أقطار العالم العربي زفوا من خلاها التهنئة للمجلة العربية بمناسبة صدور العدد 500 مشيدين بإسهاماتها المعرفية المميزة..

كما كتب الأستاذ حمد القاضي لمحات من تاريخ المجلة العربية فيما كتب الأستاذ محمد السيف ملامح من سيرة رئيس التحرير المؤسس الدكتور منير العجلاني.. وتناول الدكتور محمد القاضي دور المجلة في تنمية ثقافة العالم العربي إلى جانب تقرير أعدة الأستاذ سعد المحارب عن الحوارات في المجلة العربية ودورها في تحريك وإثارة وإثراء المشهد الثقافي العربي.. وقد أعادت المجلة في عددها 500 نشر 3 حوارات أجريت مع نازك الملائكة والطيب صالح ونجيب محفوظ.. كذلك استعرض العدد 500 دور المجلة في دعم الفكر الإعلامي المتخصص عبر المقالات والتحليلات المعمقة وأيضاً دورها في دعم الحركة الشعرية والنقدية والقصصية في العالم العربي وكذلك المدن العربية التي تناولتها المجلة في أعدادها السابقة.. كما أشار العدد 500 إلى نخبة من رموز الفكر الذين ولدت مذكراتهم من خلال زوايا كانوا يكتبونها في المجلة العربية مثل الشيخ حمد الجاسر في سوانح الذكريات.. كما استعرض الدكتور إيمان الجنابي دور وإسهام المجلة في حركة النشر والترجمة إلى اللغة العربية.. وأيضاً تضمن العدد تقريراً عن المجلة بوصفها دار نشر وترجمة من خلال إصدارتها ومنشوراتها المعرفية والثقافية والترجمية البارزة ومشاركاتها المميزة في معارض الكتاب في العالم العربي إلى جانب تقرير عن ملفات وقضايا المجلة العربية وآلية تشكيلها وصياغتها واختيارها.. وقد حمل بطن الغلاف الأخير بورتريه الشيخ حسن آل الشيخ رحمه الله..

الاثنين، 14 مايو 2018

القناع ... بقلم هدى حجاجى

لماذا لا يتركني ذلك الآخر الذى يقفز ، يطل من نافوخي .... يسألني يعاتبني ... يحاسبني , يكاد  يدينني بذنب لا حيلة لي فيه !
ماذا أفعل ....هل وجدت وسيلة لم ألجأ اليها حتى أستطيع علاج إنتقادها ، ماذا يمكن أن أفعل وقد طرقت كل السبل الممكنة ...
استلفت من صاحب  المقهى , من حماتي ، من زملائي ...
دفعت كل ما أملك وما استدنته أجرا للطبيب وثمنا للدواء إلا أنّ ....
إيه يا حضرة الصول .....
لا مؤاخذة يا أبنى ، ساعدني من فضلك .
كان الصول الاسمر الوجه الأشيب الشعر , الطويل النحيل بين زحام  الرصيف قد أصطدم بي حين تعثرت قدماه بحجر كبير يتوسط حفرة على رصيف بوابة المسرح القومي ، فتبعثرت محتويات حقيبته البلاستك   وانفرط ما بداخلها على الرصيف وأرض الشارع .
وهو بين ذراعي أخذ بيده ليقف ، كنت تخلصت من حوار ذلك الآخر الذي يهمس داخل رأسي ، يكاد يصدر عليَّ حكما بوجوب التخلص من الحياة  تجاه ما أعانيه ...
كلمات اعتذار الصول راح يتمتم بها لي ولنفسه كأنما هو لا يعتذر بل  يصبّ لعناته على كل شيء  في الوجود ، حتى على الرصيف  ومنْ  حفرهُ والتموين والمواصلات وزوجته وأولاده .....
أربكني وأنا أحاول مساعدته على جمع أشيائه ...
حين اصطدم بي كان مسرعا يريد اللحاق بالترام (Tramway ) على الناحية الأخرى  قبل أن يقوم من محطة ميدان العتبة .
كانت نظراته البائسة موزعة بين الترام وحبات البطاطس والطماطم  والبصل التي انشغلت بجمعها مع أرغفة الخبز وكيس اللحم المستورد وحقيبته البلاستك لا تزال بيدهِ بينما أهدئه ، أطمئنه بأنه سيلحــــــــق بالترام .....
اطمئن .... سليمة إن شاء الله ....
الزحام ...الزحام ... يوم الحشر هذا يا بني ... كيف اصبح الناس كثيرين  هكذا ... ثم هذا الرصيف اللعين . 
كنت أجمع معه أشياءه في حقيبته وقد عاد الآخر الذي يركب رأسي منذ الصباح يسخر مني ومن كلمات الصول الذى كان يردد ، عفوا يا بني ,  أنت لا تعرف أنهم  أربع بنات متزوجات يقمن في بيتي , أربع مشاكل عويصة , والحياة صعبة تجعلك تضيق بها وبنفسك وبكل ما تراه حولك , لقد غادرت عملي معتذرا لحضرة الضابط النوباتشي ( المناوب ) من أجـــل ..... 
قلت مبتسما أناوله أشياءه : لا يهمك يا عم , الترام ها هو أمامك لم يتحرك  بعد ..
قال الآخر الذى يسكن داخلي وقد هبط من رأسي يهمس في أذني ؛ 
لاحظ .... هو يكذب , وأنت في دوامة وحيرة تجامله , ليس في الأمر  قسم شرطة ولا ضابط  ولا استئذان ، هذه الأشياء إتاوة أخذها من مدير  الجمعية التعاونية , ليتركه يفعل ببضاعة الجمعية وزبائنها ما يشاء ....
ألا ترى ؟   
كيف ؟
انظر إلى ذراعه ..
تأملت وجه الصول ....
كانت عيناه السوداوان الضيقتان تنظران باعتذار حزين وأنا أحملق في ذراعه .... وأبتسم لدهشتي ....
اكتشفت أنه صول خدمات , على ذراعه شريط  قماش أصفر مكتوب عليه بحروف نسيجية صفراء , شرطة تموين . 
همست لنفسي أخاطب الآخر ....
غريبة ...! 
لا غرابة  ولا عجب ... ها هو ينصرف بأشيائه , وقد يكون أدرك انك  عرفت بعض الحقيقة أو كلها , قد يكون مثلك , فدعنا مرة أخرى نتحدث ، كيف ستحل مشكلتك  انت أولا ....هه..؟ 
مشكلتي ...؟
نعم مشكلتك ....
مشكلتنا معا ، ما أنا إلا أنت , وما أنت إلا المهماز الذي يوخز فيّ لأفكر  وأبحث عن حلٍّ سريع التنفيذ , أستطيع من خلاله أن أحصل على ....
على ...
ولم أواصل كلماتي مع الآخر ..
ما كدت أخطو خطوتين , على نفس الرصيف مع امتداد دوران الشارع  حتى لاح كالوحش الكاسر ، أتوبيس يقترب من سور حديقة الأوزبكية ،  مقتربا منّي يكاد يلتهمني , عربة تاكسي  قادمة بالخطأ من مدخل جراج   العتبة فتراجعت فزعا , أدوس بعض الكتب والمجلات القديمة المعروضة على الرصيف .
كان الاتوبيس في لحظة تفاديه للسيارة ينطلق مسرعا حين قفز من بابه الخلفي بحركة بهلوانية الدكتور جوهر مبتسما وهو يواجهني , يمسك  بذراعي مخففا من اندفاع جسده , يجرني معه للخلف فندوس معا فوق صفوف الكتب والمجلات المفروشة على الرصيف حيث بدا صاحبها  غاضبا , يسب ويلعن ..
اعتذرنا نحن الاثنان معا لبائع الكتب في لحظة واحدة ...
أشرنا للأتوبيس الداهم الذى كان ينطلق كالصاروخ بإتجاه ميدان الأوبرا  , وقد قفز حل المشكلة كالحظ السعيد على لسان الآخر الذي همس فجأة لي , ينبهني :  خلاص .... فرجت .
كيف ..!؟
هذا الدكتور لم يدفع لك الحساب أمس قبل انصرافه أو هربه من المقهى .
آه ...حقا ...ها هو قد ألقت به الصدفة بدلا من أن أحدثه في المقهى أمام الزبائن ..
إلتفتُ إلى الدكتور جوهر وهو ينفض جاكيته (jacket ) الزرقاء  الكاروهات الانجليزي , يعدّل الكارافاته ( ربطة العنق ) وياقة القميص  اللينوه ثم يتأمل وجهي ....
خير يا أستاذ  شيبون .....لماذا تقف هنا ... أليس عندك ورديّة عمل  ..
أبدا ... كنت نازلا من الاتوبيس , ما كدت أخطو بضع خطوات على نفس  هذا الرصيف حتى اصطدمت . 
أنت الآخر  ... اصطدمت بماذا ؟
قال الآخر الذي بداخل رأسي وقد عاد  ينبهني :
أطرق الحديد وهو ساخن , ادخل في صلب الموضوع , أليس هو طبيب  يمكن أن يساعدك في إنقاذ  تهاني زوجتك ويعطيك الحساب أيضا...و...
قلت للدكتور وهو ينظر حوله ثم ناحية الأتوبيس المار الذي كان قد توقف  بعيدا عند تقاطع المرور في ميدان الأوبرا وعيناه  تتأملان زرقة سحب  السماء الصافية الربيعية والسيارات والمارة ، يبتسم وينظر لي , ثم يتحرك ناحيتي لليسار . 
لا ...أبدا ...أصل الموضوع ...
أيّ موضوع ...؟
هززت رأسي ... متجاهلا ضحكته لإضطراب كلماتي الذي لاحظه بذكاء   رغم انشغاله بتأمل ما حوله ...
أقول لك أخذت اليوم راحة من العمل في المقهى , كنت بالأمس أود أنْ أطلب منك خدمة ....
خدمة ...خيرا !؟ ...طوع أمرك ... لماذا  لم تكلمني بالأمس ؟
الحقيقة  ...الحقيقة أن حضرتك انصرفت أمس فجأة  ... كنت مع الأساتذة  تتحدثون متضاحكين حول ظاهرة بيع السلاحف التي انتشرت في شوارع  وسط القاهرة وميدان التحرير والجيزة والمهندسين , في المعادي ومصر الجديدة و........
وضحكت كما كانوا يتضاحكون أمس في المقهى .....
ضحكت متظاهرا بإلتقاط أنفاسي  أستعين بالأخر الذي في رأسي لأدخل في الموضوع قائلا ؛
رأيتك تتجه إلى دورة المياه , ثم فجأة غادرت المقهى ...
آه .... حكاية السلاحف الماشية على الرصيف والسلاحف القابعة تأكل الخس تنظر للزبائن المندهشين لرؤيتها بلا سبب  ..
ذكّرتني لقد شاركت في هذا الحديث حتى قمت ...
آه ... تذكرت ، لم أدفع لك الحساب  ... يا أخي تكلم ، خذ .... مدّ يده   فجأة يفك زرارا في صدر قميصه ثم يمد أصابعه يبحث داخل القميص  حول صدره عن شيء حتى أخرج محفظة خضراء صغيرة من البلاستك  يسألني .... 
كم كان الحساب  أمس ؟
اثنين قهوة .. وأظن واحد شاي ...
قلت معتذرا في خجل .. أتظاهر بأنني غير مشغول بأخذ ثمن المشـــروبات ، لكن الموضوع الذي يشغلني هو مشكلة شخصية نتجت عن زواجي المبكر بلا داعي , سوى الغفلة .....
قال وهو يقلّب المحفظة بين أصابعه ...
غفلة ...أيّ غفلة ؟
قل لي هل أنصرف الجماعة مبكرين أمس ؟
لا .... لقد طالت الجلسة في الحديث عن صدام حسين وما يحدث في العراق والكويت ...
هل حقا يحتمل أن يستخدم الأمريكان قنابل ذرية نظيفة لحسم مشكلة  احتلال الكويت ؟
قال : وهو يأخذني من ذراعي إلى شجرة بجوار سور الحديقة ...
قنابل نظيفة , قنابل قذرة ...لا أظن أنّ حربا ستحدث , القوتان  الكبيرتان استجابت لسياسة الوفاق الدولي ...افهمني  ...أنا لا أحدث جرسونا ، أنا أحدث شيبون المعدواي , حامل ليسانس الآداب قسم الفلسفة الذي ينتظر التعيين منذ ثلاث سنوات وسينتظر أكثر , لقد كنت أراك تقرأ الصحف والمجلات  بعد انتهاء عملك في البوفيه المقهى , ألم تكن تفهم !؟
عموما انتظر لحظة ....
كان قد راح يقلب الاوراق التي أخرجها من المحفظة البلاستك خلال  حديثه معي , وكنت أراقبه بدهشة طفولية ...
متعجبا  ... ومأخوذا ....لاحظت بين اصابعه البطاقة الشخصية لصاحب  المحفظة .....
صورة البطاقة  كانت لرجل صعيدي الملامح والملبس ,  في نحو الخمسين أو أكثر ، يلفُّ شالا أبيضا حول رأسه ، له شارب كثيف فوق جرح ممتد طولا يملأ صدغه الأيمن ، يرتدى جلبابا من الصوف المخطط  وأسفل الصورة أسمه ؛ السيد علوان قناوي .... ثم عنوانه حارة كذا والمهنة , عامل نجار في شركة أولاد الحجاوي للمعمار بالجيزة .
غريبة ..... ماذا يحدث !؟ 
هذا  الرجل هو صاحب المحفظة  .....
قال الآخر ................
يا هذا !! .... تأمل صاحبك الدكتور كيف أخرج المحفظة من داخل  قميصه وكيف قفز من الأتوبيس وهو يسير مندفعا ، ألم تفهم !؟
قلت على استحياء ضاحكا ؛ ما هذا يا دكتور !؟
عبّرت شفتاه الرقيقتان عن ابتسامة رقيقة وجريئة معا بانت معها أسنانه  المنتظمة الصغيرة البيضاء في فمه .
قال وهو يهزّ رأسَه ........
كما ترى ، لا تشغل بالك يا شيبون المعدواي  , هل نسيت كلماتك  الساخرة في المقهى مع زملائك وهم يضايقونك ويسرقونك في حساب البقشيش آخر النهار !؟ لقد كنت أسمعك وأنت تقول لهم ؛ ليسانس يا أولاد الحلال , أتعامل معكم بأمانة وتفعلون بي هكذا , ربنا يمسخكم قرودا ، أليس كل من حولنا قرود .... هه ؟ 
وراح يتحدث بأسىً ، كنا  قد تفاهمنا بالنظرات الضاحكة ، فهمنا بعضنا برغبتنا الساخرة ورغما عن أنفنا .
وكان الدكتور ينظر حوله وهو يدس أصابعه  داخل المحفظة يستخرج منها باقي محتوياتها من الأوراق ... ثم فجأة يأخذني من يدي , يتخطى بي سور الحديقة , نجتاز طرفها حتى نجلس في أحد أطرافها النائية على مقعد حجري  ليبدأ يقلب في الأوراق التي داخل المحفظة وأنا أتأمل معه ما تحتويه .
كانت الورقة  الأولى وثيقة طلاق هنومة السيد علوان قناوي من زوجها سلامة جابر عبدالحفيظ , عامل بلاط موزاييك بشركة المنصورية ، كوم أمبو . 
ورقة الطلاق هذه التي كان الدكتور يتأملها بحرج حزين شعرت انه يفطر قلبي  ، كانت مرسلة عن طريق محضر محكمة على عنوان والدها  مشبوك بها كارت باسم المهندس أسامة الحناوي , كارت توصية الى أحد المحامين الشرعيين في الجيزة , وعلى ظهر الكارت كلمات ؛ أرجو الاهتمام بموضوع حامله .
مجاملة إنسانية من أجل خاطري , وسيدفع نصف الأتعاب والمصاريف  مقدما .....
قلت لنفسي  متأسيا :
شيء مؤلم .... ماذا سيفعل الآن الرجل صاحب المحفظة , ثم ابنته  المسكينة  المطلقة ؟
قال الآخر يسخر مني ، حافظته وماذا يفعل ؟  يواجه الواقع كما تواجهه  أنت الآن ... يضرب رأسه في الحائط , يبصق على كل من حوله , يسرق  يلجأ لواحد مثل صديقك الدكتور هذا  .... ذلك اذا لم .........
انتابني إحساس بوجع شديد في مؤخرة رأسي , مع شعور بالقرف من الدكتور ومن نفسي .... من رجل مهندم يقرأ صحيفة في آخر الممشى  جالسا وحده .....
كنت موجوعا ....أتلوّى داخل نفسي حين ابتسم الدكتور فجأة وأنا أتيقظ . ها .... لقد وجدتها ......
في مثل الجيب السري بالمحفظة رأيت الدكتور يدفع بظفره ثم إصبعه  الخنصر يفصل ورقتين عن بعضهما ليخرج من بينهما أوراق عملة جديدة  رقيقة فركها بين أصابعه فاذا هي ست ورقات من فئة العشرة ثم ورقة كبيرة فئة المائتين جنيه أعلاها وأسفلها , ثم راح يتأمل  صورة المئذنة  على يمينها  متحسرا يهمس .....
المسكين  المتعوس الرجاء .... لماذا  فئة المائة قديمة لا تصرف الاّ من بنك أو شخص ، وما هذه الورقة أيضا ؟
فك طيات الورقة فاذا هي اخطار  من مدرسة الثانوية بنين عن غياب الطالب رشاد السيد علوان قناوي أسبوعين .... يرجى حضور ولي الأمر في ظرف ثلاثة ايام والاّ سيتم فصله من المدرسة 
قلت لنفسي .... يفصلونه ...لا ..... المسائلة هامة وعاجلة ...البطاقة ورقة الطلاق وإخطار المدرسة لابد من ارسالهم  لذلك الرجل الغلبان بالبريد على عنوانه ، لابد وأن أتدخل .
قال الآخر 
ها أنت ذا تستنجد بعاطفة المشاركة مع هموم الآخرين , جرب مع صديقك  الدكتور الذي تحاول أن تستنجد به .
نظرت إلى الدكتور جوهر وهو شارد الذهن ساهم ....
ألعله يفكر في مشاكل الرجل صاحب هذه المشكلة هذه المحفظة مثلى ؟
قال الآخر الذي يقبع داخل نافوخي ؛ 
حكّ بظفر الشهامة في جلد الدكتور ، هيا ... معه البطاقة وعنوان الرجل  , اطلب منه أن يفعل مثل بعض النشالين  طيبي القلب , أن يرسل مصائب الرجل العاجلة في مظروف بالبريد الآن . 
همست مستعطفا ....
أسمع يا دكتور ...ارجوك قبل أن أحدثك عن مشكلتي التي أقصدك في حلها ، أنا لا أريد ثمن المشروبات الآن , ها نحن قرب مكتب البريد , على بعد خطوات قصار منه . 
نظر اليّ صامتا مطبقا شفتيه يفترسني بنظرة عطوفة ومؤنبة , ثم حرك قبضة يده الصغيرة الناعمة يديرها أمام وجهي بأصابعه النحيلة الطويلة  الأظافر , كأنها مخالب صقر،  تعلقت بها عيناي ... حتى واصل حديثه فجأة في حسم ؛
اطمئن , سيحدث هذا فعلا  ...هل تظنني ......
لا .... بل قصدت .
تقصد ماذا ...؟ ما هي مشكلتك أولا يا فالح ..؟
مشكلتي ؟
كررت كلمته لنفسي .... مشكلتي ....
تنبهت الى أنه يغير موضوع الحديث . 
قلت وعيناي معلقتان بابتسامة ساخرة :
مشكلتي يا دكتور أن زوجتي تهاني تعاني من نزيف حاد مستمر منذ أسبوع .
آه .... إذن أنت متزوج ! 
تابع متعجبا يهز رأسه ، 
تتزوج بليسانس الفلسفة مع عملك بالمقهى قبل أنْ يأتي دورك في التعيين  يا رجل !
قلت له أطارد حل المشكلة على يديه , بينما انصرف الاخر عن دفعه لي بأن أقول له انني أتزوج بقصد المتعة أو بناء أسرة . 
لقد تزوجت زميلة لي بالجامعة لأجد المأوى عند أسرتها ....
كنا ضائعين معا بعد وفاة  أمي وأبي أيضا وكنا لا ..
أسكت أيها الآخر كفى مخازي وفضائح أرجوك ... أسكت . 
عدت  أقول  للدكتور بعد اشتباكي لحظة مع ذلك الآخر ،
مشكلتي يا دكتور ليس النزيف وحده بل النقود  .... وأنت منذ ثلاثة أيام وأنا أحاول أن أحدثك ولا أجد فرصة حتى كان حديث السلاحف  وانصرافك من المقهى فجأة يوم أمس .
تألم  الدكتور  .... بان الألم  واضحا على قسمات وجهه قبل أن يضحك  فجأة ....
أولا  يا عزيزي  أنا لست دكتورا ولا طبيبا ، أنا دكتور في المقهى  بالشهرة فقط ، عملي هو كاتب حسابات في مكتب صحة الوايلي ..... والجماعة  في المقهى معارفي ينادونني بلقب الدكتور من باب المجاملة  أو الضحك , نظرا  لبعض خدماتي لهم ولأسرهم .....
قال الآخر يكاد يقفز من نافوخي :
عال ... احلوّت  المسألة  ...استفسر  منه إذن عن  حل اللغز الحادي  والعشرين في مهزلتك الكونية يا بطل .
قلت أهز رأسي مندهشا ....
أحاول أن أعثر على إداركي  
لست  دكتورا  ... كيف !؟
هكذا  حدث , هل غرتك أناقتي  , إنها ملابس لزوم الشغل ..... 
أيّ شغل !؟ .....إنك خنقت تواصل الكلمات في صدري . 
كنت أقصد أن أقول له لزوم شغل النشل ... لكنني تداركت ....
لا يهم أي شغل  ...المهم هو كيف تستطيع مساعدتي  ... نزيف زوجتي مستمر  وصحتها في تدهور  ... ضعفت  ... شحب  لونها ... توشك أن تموت .
مد ساعده يطوقني ثم  وقف يغمغم بما لا أفهمه حتى قال :
خلاص ...لا تشغل بالك كثيرا  .... المسألة بسيطة ....
كيف ...؟
قال وهو يضع المحفظة في جيبه بأوراقها بعد أن دسّ الاوراق النقدية  التي كانت بداخلها في يدي ...
أسمع تستطيع أن تبيع ورقة الجنيهات ذات المئذنة لأحد محلات الطوابع  والنقود التذكارية وسأذهب الآن لإرسال أوراق ذلك الرجل التعيس على عنوانه , أما بعد الظهر فسوف أعطيك خطاب توصية لطبيب من أحد معارفي في مستشفى روض الفرج ...  طبيب  طيب القلب وظريف مثلك , قدم له توصيتي غدا صباحا مع زوجتك واطمئن ، هو سيدخلها المستشفى فورا .
مستشفى ...!؟  تموت هناك ......
ماذا تقول يا رجل ... لماذا هي بالذات ما هذا الخوف من المستشفى الذي يسيطر عليك يا حامل الليسانس .
يا دكتور ......
عدت تقول يا دكتور ...
ضحكت ممرورا أقول :
ستظل على الأقل في نظري دكتورا....... دكتورا في كل مهنة  أو تصرف .....
ضحكنا .... رحنا نضحك معا ....
عاد يسألني ...
لماذا نتحدث عن الموت بأسى موجع أمام  دكتور مثلى  يبتسم , يعمل ,
يسرق ... ويضحك , برغم  كل شيء  .... وسعيد ايضا بنداوة أيام الربيع  هذه .
أسمع ...... ألسنا  نموت صباحا ومساء  .... لماذا إذن لا نضحك !؟ 
لو في عمر زوجتك بقية من عذاب , فلن توجد قوة تحت سماء الرحمن يمكن أن ....
اسمعني .... أرجوك يا دكتور .....
عادت ابتسامته تشرق على وجهه بالسخرية  يقول :
يا شيبون المصراوي يا صديقي  , انا لا أستطيع أن أعطيك نقودا أكثر مما حصلت عليه اليوم وأنا افعلها في الأسبوع مرة واحدة , قد تصيب وقد تخيب ، كما لا أستطيع أن أسرق لك طبيبا أحضره لمنزلك لعلاج زوجـــتك .....
عفوا .......
عفوا عن ماذا ..؟
تتعجل حل مشكلتك ؟...... لا يرضيك اقتراحي بحكاية جواب التوصية , إذن  .... أعطني  فرصة أفكر ....
وأطرق لحظات برأسه يضعها بين راحيته ثم واجهني بعينيه العسلتين  تلتمعان بنشوة المنتصر على نفسه :
أسمع .... أنا في اجازة اليوم من عملي والساعة الآن الرابعة ... موعدنا ستفرج . 
تفرج ...؟
قلتها  .... قلقا ... يأسا ......
نطقت بها كالمتوسل وفاقد الأمل وهو يقف ممسكا بقبضة يدي يضعها بين أصابعه النحيلة ، يدعوني للوقوف معه .....
نعم .....ستفرج ....لماذا كل هذا  اليأس .....
وأستنهضني بيده التي تأخذ بذراعي هامسا ،  قم نتمشى  قليلا في حديقة الله  بين خلقه ....
تلفت حوله فتابعت عينيه حتى استقرتا على ما تنظران إليه ......
كانت عيناه العسليتان قد إلتمعتا بنشوة متحفزة للبعيد هناك  .......
كان أوتوبيس رقم 7 القادم من ميدان الأوبرا يقترب داخلا ممرات
المرآب مزدحما بركابه المكتظين على بابه الخلفي . 
كان ينظر إلى الأتوبيس ثم بين قدميه مرة ومرة , حتى صافحت عيناه  وجهى يهمس : 
خلاص ... لا تواصل عذاب التشاؤم .
وسحبني من ذراعي يدفع بي إلى غير اتجاه خطواته المسرعة المبتعدة  عنّي وهو يرفع صوته :
لا تقلق ... موعدنا الساعة الرابعة 
وضحك قائلا  .....
ما لم يحدث ما لا تحمد عقباه .
قلت مضطربا .... 
في المقهى ؟
نعم في المقهى  ... ستجدني في انتظارك .....
وأسرع الخطى يخترق باب سور الحديقة الحديدي نحو محطة الأتوبيس  والآخر يقفز من تلافيف رأسي يتساءل ......
هيه ......... انت قلق عليه ؟
قلق ....؟
قلق ومتردد ..... متأسف لما سيفعله , تخشى أن يضبطه راكب وهو يسرقه ... قد يضربه أو يسلمه للبوليس .... ومع ذلك تتمنى لو ينجح في مهمته ....ألم أقل  لك أنك ..... انفعلت .
أهز رأسي و كأنما أنفض عنها ما يوجعها ......
كنت أحاول أن أهرب من ذلك الحوار والتساؤل , من القلق  والضيق ,  من نفسى  ومن ذلك الآخر داخلي .....
كنت أنتزع نفسي هاربا من متابعة الدكتور وهو يبتعد ويبتعد عن مدى رؤيتي حتى توارى بين زحام المسرعين مثله , ليحلق  كل منهم  بأتوبيس يركبه ......
كل منهم .... ترى أيّهم ؟..... أي هؤلاء البعيدين هناك ....... سيكون ضحية كل ما حولي ... مثلي ؟

أقرا ايضا