السبت، 21 ديسمبر 2024

وصف الموت

. 《 سوف نحبُ الموت بعد قراءة هذه الخاطرة 》 

 الموت  يا لها من كلمة مثيرة ومرعبة؛ 
"الموت" ! بمجرد الإشارة إليها يرتجف القلب,  وتتلاشى الابتسامة عن الشفتين وتختفي البهجة في الحال,  وتجلب الكابة والاكتئاب وتدفع جميع الوساوس للعقل .

الحياة والموت متلازمان. فلولا وجود الحياة, ما كان هناك موت. وكذلك، يجب ان يكون هناك موت ليكون للحياة معنى. كل شيء، حتى النجم الأكبر في السماء أو أصغر ذرة على سطح الأرض، جميعها ستموت الآن أو لاحقا. الصخور والنباتات والحيوانات، جميعها تأتي للوجود وستتم إعادة إرسالها بنجاح إلى العدم. جميعها ستتحول إلى قبضة من التراب وسيطويها النسيان .

وهكذا، تستمر الأرض في الدوران السريع في السماء اللامتناهية، وتجدد الطبيعة حياتها على بقايا الموتى، تشرق الشمس، تهب گالنسائم، وتملأ الزهور الهواء بالعبير، وتصدح الطيور. تصبح جميع المخلوقات مهتاجة. تبتسم السماء، وتتغذى الأرض، ويأتي ملاك الموت ليحصد الحياة بمنجله القديم . 
إن الموت يتعامل مع جميع المخلوقات بمساواة ويحدد أقدارهم دون تحيز. ولا يميز بين الغني والفقير، ولا بين الوضيع والسامي. إنه يضع البشر والنباتات والحيوانات بجوار بعضهم البعض في قبورهم المظلمة .

فقط في المقبرة يتوقف الجلادون والسفاحون عن التصرف بوحشية واستبداد ولا تُنتهك البراءة. في المقبرة، لا وجود لقاهر ومقهور، ويستلقي الشاب والعجوز في سلام. ياله من نوم مبهج! لن يرى بعده الإنسان صباح اليوم التالي ولن يسمع مطلقا ما في الحياة من تهديد ووعيد. 

إن الموت أفضل مأوى، إنه ملجأ من الآلام والأحزان والمعاناة والقسوة. فمع الموت، تخمد نيران الشهوة والنزوات. وتتوقف جميع الحروب والاختلافات والقتل بين البشر ويواري التراب المظلم البارد كل العنف والصراعات والأنانية داخل القبر الضيق. لو لم يكن الموت موجودا، سيتوق الجميع إليه. وستصل صيحات اليأس إلى عنان السماء. سيصب كل إنسان غضبه على الطبيعة. 

كم ستكون الحياة مريعة ومؤلمة إذا كانت بلا نهاية. فعندما يستنفد اختبار الحياة الصعب والشاق لهب الشباب المتقد، وعندما تجف بئر الشفقة، وعندما تغمرنا البرودة والظلمة والقبح، فلا يوجد سوى الموت علاجا لهذا الموقف. إنه الموت الذي يواري قامتنا المحنية ووجوهنا المجعدة وأجسادنا الواهنة المثقلة بالحزن في مثواها الأخير. 

آه أيها الموت، كم تهون من الحزن والأسى في الحياة، وتخفف ما نتحمله من أعباء. فأنت تضع حدا لمشقة وبؤس التجول، ولحياة الرجال التعساء الواهنين. أنت ترياق للحزن واليأس. تجعل الدموع تجف. أنت مثل أم رحيمة تحتضن وتهدهد طفلها حتى ينام بعد يوم حافل. ولست مثل الحياة؛ مؤلم ووحشي. فأنت لا تجر الإنسان للفساد والرذيلة وتلقي به في دوامة لا نهاية لها. أنت تسخر من وضاعة وخسة وأنانية وبخل وجشع البشر وتخفي أفعالهم البذيئة. من لم يتجرع نبيذك المسموم؟ 

لقد ابتدع الإنسان صورة مرعبة لك. فأنت أيها الملاك الرائع يتم التعامل معك بوصفك شيطانًا رجيمًا. لماذا يخشونك؟ لماذا يضللونك ويتهمونك؟ أنت ضوء لامع، لكنهم يربطون بينك وبين الظلام. أنت ملاك البشارة بالرحمة، لكنهم يستقبلونك بالعويل والصراخ، رغم أنك لست رسول الحداد والنواح. أنت شفاء للقلوب الحزينة، فأنت تفتح باب الأمل لكل يائس. أنت تعزية الحزاني واليائسين وتخفف عنهم المعاناة خلال رحلة الحياة. أيها الموت.. أنت تستحق الثناء.. أنت دائم الأثر . 

-----------------------------------

هذه أروع وأصدق خاطرة قرأتها عن الموت, 

الجمعة، 6 ديسمبر 2024

جرير والفرزدق

بعد مسيرةٍ طويلة مليئة بالهجاء والصراع الشعري،
 انتهى صراع جرير والفرزدق بعدما توفي الأخير في البصرة عن عمر 80 عاماً.
 ولما بلغ جرير موت الفرزدق، قال: 
مات الفرزدقُ بعدما جدّعتُه – ليت الفرزدق كان عاش قليلاً 

ثم سكت طويلاً وبدأ يبكي بكاءً شديداً، فقال له قوم: "أتبكي على رجلٍ يهجوك وتهجوه منذ 40 سنة؟"، فقال الشاعر جرير: "إليكم عنّي، فواللهِ ما تبارى رجلان وتناطح كبشان، فمات أحدهما، إلا وتبعه الآخر عن قريب".

لقد كان حدس الشاعر جرير في مكانه، فقد توفي بعد عامٍ واحد فقط من موت الفرزدق، و لعلّ أجمل قصائد جرير كانت تلك التي كتبها في رثاء عدوّه اللدود الفرزدق: 

لَعَمري لقد أشجى تميماً وهدّها – على نكَباتِ الدهر موت الفرزدق 

عشيةَ راحوا للفِراق بنعشِهِ – إلى جَدَثٍ في هُوّةِ الأرضِ مُعمَقِ

لقد غادروا في اللحدِ من كان ينتمي – إلى كُلّ نجمٍ في السماءِ مُحلِّقِ

ثَوى حامِلُ الأثقالِ عَن كلِّ مُغرَمٍ – وَدامِغُ شَيطانِ الغَشومِ السَمَلَّقِ

عِمادُ تَميمٍ كلِّها ولسانُها – وناطقُها البَذّاخُ في كلّ منطقِ

فَمَن لِذوي الأرحامِ بعدَ ابن غالبٍ – لِجارٍ وَعانٍ في السلاسلِ موثَقِ

ومَن لِيتيمٍ بعد موتِ ابن غالبٍ – وأمِّ عيالٍ ساغبينَ ودَردَقِ

ومَن يُطلِقُ الأسرى ومَن يُحقنُ الدِما – يداهُ ويَشفي صدرَ حَرّانَ مُحنَقِ

وكَم مِن دمٍ غالٍ تحمّلَ ثِقلَهُ – وكان حَمولاً في وفاءٍ ومَصدَقِ

وكَم حِصنِ جبّارٍ هُمامٍ وسوقَةٍ – إذا ما أتى أبوابَهُ لم تُغلَّقِ

تَفَتَّحُ أبواب الملوكِ لوجههِ – بغيرِ حجابٍ دونَهُ أو تمَلُّقِ

لِتَبكِ عليهِ الإنسُ والجنُّ إذ ثَوى – فتى مُضَرٍ في كلّ غربٍ ومشرِقِ

فتىً عاش يبني المجدَ تسعين حِجّةً – وكان إلى الخيراتِ والمجدِ يرتقي

فما مات حتى لم يُخَلِّف وراءهُ – بِحَيَّةِ وادٍ صَولَةٍ غيرَ مُصعَقِ

الخميس، 5 ديسمبر 2024

الطيب صالح

كتب الاديب الطيب صالح ..

آلاف الناس يموتون كل يوم . 
ولو وقفنا نتمعن لماذا مات كل منهم ، 
وكيف مات ماذا يحدث لنا نحن الأحياء ؟ الدنيا تسير  باختيارنا أو رغم أنوفنا . وأنا كملايين البشر ، أسير ، أتحرك بحكم العادة في الغالب في قافلة طويلة ، تصعد وتنزل تحط وترحل . والحياة في هذه القافلة ليست كلها شراً . أنتم ولا شك تدركون ذلك . قد يكون السير شاقاً بالنهار ، البوادي تترامى أمامنا كبحور ليس لها ساحل . نتصبب عراً . وتجف حلوقنا من الظمأ . ونبلغ الحد الذي نظن أن ليس بعده متقدم . ثم تغيب الشمس . ويبرد الهواء . وتتألق ملايين النجوم في السماء . نطعم ونشرب حينئذ ، ويغني مغني الركب . بعضنا يصلي جماعة وراء الشيخ ، وبعضنا يتحلق حلقات يرقصون ويغنون ويصفقون . وفوقنا سماء دافئة رخيمة . 
وأحياناً نسري بالليل ما طاب لنا السري ، وحين يبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود نقول : ( عند انبلاج الصبح يحمد القوم السري ) . وإذا كان السراب أحياناً يخدعنا ، وإذا كانت رسومنا المحمومة بفعل الحر والعطش تقرر أحياناً بأفكار لا أساس لها من الصحة فلا جرم . أشباح الليل تتبخر مع الفجر ، وحمى النهار تبرد مع نسيم الليل . هل ثمة وسيلة أخرى غير هذه ؟ .
هكذا كنت أقضي شهرين من كل سنة في تلك القرية 
الصغيرة عند منحنى النيل ..

رواية موسم الهجرة الى الشمال ..

الأديب الفيلسوف السوداني الطيب صالح

الأربعاء، 4 ديسمبر 2024

العارف بالله عبدالسلام بن بشيش

(فرسان العشق الإلهى 5 )
ومع (سيدي عبد السلام بن مشيش قطبُ دائرة المحققين، أستاذُ أهل المشارق والمغارب، وسندُ الواصلين إلى أنجح المطالب، سيدنا ومولانا عبد السلام ابن سيدنا مَشيش ابن سيدنا أبي بكر الحسني الإدريسي.

كان رضى الله عنه قطبَ الوجود، وبقية أهل الشهود، الغوث الفرد، الجامع لأسرار المعاني، غوث الأمة، وسراج الملّة، صاحب العلوم اللدنية، والمعارف الربانية، الجامع بين علم الشريعة والحقيقة، لم تطلع الشمسُ على مثله في زمنه.

له كراماتٌ وخوارق لا تدخل تحت حصرٍ، منها: أنه يوم ولادته سمع سيدي عبدُ القادر الجيلاني رضي الله عنه ونفعنا به آمين، هاتفًا يقول: يا عبد القادر، ارفع رجلك عن أهل المغرب، فإنَّ قطبَ المغرب قد ولد في هذا اليوم، فتمشى الأستاذ عبد القادر إلى جبل الأعلام بالمغرب، حيث مولد سيدي عبد السلام، وأتى إلى أبيه سيدي مَشيش، وقال له: أخرجِ لي ولدك. فخرّجَ له أحدَ أولاده، فقال له: ما هذا أريد. فأخرج له أولادَه كلهم، وقال له: ما بقي إلا ولدٌ واحد ولد في هذا اليوم. فقال له سيدي عبد القادر: عليَّ به؛ فهو الذي أُريده. فأخرجه سيدي مَشيش، فأخذه سيدي عبد القادر، ومسحَ عليه، ودعا له.

وكان رضى الله عنه إذا أهلَّ هلال رمضان يمتنعُ عن ثدي أمه، فإذا أذن المغربُ قاربه، وارتضع منه.

ويكفيك في فضله أنَه أستاذُ الأقطاب الثلاثة: سيدي إبراهيم الدُّسوقي، وسيدي أحمد البدوي، وسيدي أبي الحسن الشاذلي 
                     

   تعددت ألقابه، لجلالة قدره، وعلو همته، فلقب بشيخ مشايخ الصوفية، وبإمام أئمة الطريقة الصوفية الشاذلية، وبالقطب الشهيد، والكنز المطمور، والغوث الأشهر وغيرها، هو من العلماء العارفين، والزهاد الورعين، وكبار المتصوفة المتحققين.

   إنه أبو محمد سيدي عبد السلام بن مشيش- وقيل ابن بشيش- ابن أبي بكر بن علي ابن حرمة بن عيسى بن سلام بن مزوار بن علي بن محمد بن مولانا إدريس دفين فاس، ابن مولانا إدريس دفين زرهون، وفاتح المغرب، ابن مولانا عبد الله الكامل بن مولانا الحسن المثنى بن مولانا الحسن السبط بن سيدنا علي ومولاتنا وسيدتنا فاطمة الزهراء بنت سيد العالمين، عليهم من ربهم جميعا الصلاة والسلام،[1] ولد سنة (559ھ/1198م) بالحصين،[ إذ ينحدر من قبيلة بني عروس، كان معروفا بذله لله تعالى، وبتواضعه بين الخلق، كان إقباله على الله وإدباره عن الخلق سمة من سماته، عاش في بيئة سليمة، وترعرع بين أحضان أسرة كريمة من آل البيت التزمت بدين الله وشرعه.

  وقد ظهرت عليه بوادر الصلاح والتقوى منذ صباه، قال عنه أحد مؤرخيه: "هو الذي أنواره منذ كان في المهد صبيا، ثم طوى في السياحة في صباه الأرض طيا...، حفظ القرآن بالروايات السبع وهو ابن الثانية عشرة، وقضى في سياحته أكثر من خمسة عشرة سنة، درس وتعلم على يد كبار العلماء والشيوخ، من بينهم: الولي الصالح سيدي سليم شيخه في القرآن، والفقيه العلامة سيدي أحمد الملقب بأقطران، شيخه في الدراسة العلمية، ثم شيخه في التربية والسلوك العارف بالله سيدي عبد الرحمن بن الحسن الشريف العطار المدني، الشهير بالزيات، الذي أخذ عنه الطريقة، وشرب من يده عوالم الحقيقة".]

  كان مولاي عبد السلام بن مشيش عالما فاضلا، ومتصوفا عارفا، وعابدا من الصادقين، فكان يصعد إلى الجبل، قصد التعبد والخلوة، ورغم زهده، وطول سياحته، لم يغفل الجانب الأسري ولا العلمي من حياته، فأعطى لكل ذي حق حقه، دون الخروج عن جادة الشريعة.

  قُسّمت حياته إلى ثلاث مراحل حسب بعض المؤرخين: سخر المرحلة الأولى منها للحياة العلمية، فنهل من علوم النقل وعلوم القوم ما نهل، وفي المرحلة الثانية جعل اشتغاله بتربية أولاده الأربعة تربية صوفية، دون أن يغفل جانب الجهاد منه، فكان راعيا، وخادما لأهله، مستعدا ومتحمسا للشهادة من أجل دينه ووطنه.

  وأما في المرحلة الثالثة فقد كانت مسك الختام، حيث فناها في الخلوة والعبادة والزهد،[ حتى اشتهر بذلك، فكان رضي الله عنه، "في العلم في الغاية، وفي الزهد في النهاية، جمع الله له الشرفين الطيني والديني، وأحرز الفضل المحقق اليقيني، حيث كان متمسكا بالكتاب والسنة، عاملا بهما، ملتزما لهما"،[فهذين العاملين بالنسبة لمولاي عبد السلام بن مشيش، كانا هما الموصلين لمقام الصديقين، في عبادة المؤمنين لربهم، حيث فصل ذلك في قوله "عبادة الصديقين عشرون: كلوا، واشربوا، والبسوا، وانكحوا، واسكنوا، وضعوا كل شيء حيث أمركم الله، ولا تسرفوا، واعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئا، واشكروه فإنها نصف العقل، والنصف الثاني: أداء الفريضة، اجتناب المحارم...والتفقه في دين الله... وكل ورع لا يصحبه العلم والنور فلا تعد له أجرا"

   لقد عمت شهرة مولاي عبد السلام بن مشيش المشرق والمغرب، في حياته كما في مماته، حتى أن ضريحه كان ولا يزال من أعظم مزارات المغرب المشهورة عبر العصور والأجيال، "فلم تزل الوفود تأتي إليه من سائر الآفاق، من عارفين وصوفية وعلماء وفقهاء، وعامة الناس"،] لزيارته و التبرك به، والبعض لإحياء ذكراه، حيث أصبح مقامه في المغرب كمقام الشافعي بمصر، كيف لا، "وهو أستاذ الأقطاب الثلاثة: سيدي إبراهيم الدسوقي، وسيدي أحمد البدوي، وسيدي أبي الحسن الشاذلي"،[ هذا الأخير الذي لم يكن سيدي عبد السلام بن مشيش أستاذا له في التربية والسلوك والعلوم فقط، بل أيضا في التوجيه، ورسم معالم الطريق، والصمود على مواصلة السير فيه.

   فهو الذي قال عنه العلامة الشيخ إدريس الفضيلي: "...هو البدر الواضح...، المشتهر في الدنيا قدره، الطالع في فلك المعاني بدره، وقال عنه الشيخ ابن عجيبة: ...وأما علو قدره، وجلالة منصبه، فذلك أمر شهير، وقد تغلغل في علوم القوم التي مدارها التخلق بأخلاق النبي عليه الصلاة والسلام"

   ولقد خلف مولاي عبد السلام بن مشيش، من أسرار المعاني والمعارف الربانية، التي فتح الله بها عليه، ما أبقاه قطبا منفردا في زمانه، وشيخا جليلا في حبه وفنائه، ذو كرامات عجيبة، ووصايا جليلة، فمن أكبر تلك الكرامات المعنوية: تلميذه الشيخ أبو الحسن الشاذلي، الذي بصحبته ووصاياه له، أصبح من بعده مؤسس، وشيخ الطريقة الشاذلية، المنتشرة في العالم الإسلامي، والتي اتبعها العديد من المريدين، منذ ذاك العهد إلى يومنا هذا.

   ومن كراماته التي رواها عنه تلميذه، قوله: "كنت يوما بين يدي الأستاذ، فقلت في نفسي: ليت شعري هل يعلم الشيخ اسم الله الأعظم؟ فقال ولد الشيخ وهو في آخر المكان الذي أنا فيه: يا أبا الحسن، ليس الشأن من يعلم الاسم، الشأن من يكون هو عين الاسم. فقال الشيخ، من صدر المكان أصاب وتفرس فيك ولدي".، ومنها أن زُفّت ولادته لسيدي عبد القادر الجيلاني، رضي الله عنه، عبر بهاتف رباني، جاء فيه: "ارفع رجلك عن أهل المغرب، فإن قطب المغرب قد ولد في هذا اليوم -أي سيدي عبد السلام ابن مشيش- وكان إذا هلّ هلال رمضان، يمتنع عن ثدي أمه، فإذا أذن المغرب قاربه، وارتضع منه".]، "وكان صاحب جذب لا يصل إليه مريد صادق ويتجرد من علمه وعمله، إلا رقاه ووصله إلى ربه".[12]

   لقد ترك سيدي عبد السلام بن مشيش  لتلميذه ووارث سره، إرثا ثمينا تجلى في وصايا نفيسة، شأنها شأن وصايا لقمان لابنه، حيث شكلت مهد الطريقة الشاذلية، وشعلتها الأولى، يقول على لسان تلميذه: "يا علي، الله الله، والناس الناس..، عليك بحفظ الجوارح، وأداء الفرائض، وقد تمت ولاية الله عندك".[

   وقال له أيضا: "لا تنقل قدميك إلا حيث ترجو ثواب الله، ولا تجلس إلا حيث تأمن غالبا من معصية الله، ولا تصحب إلا من تستعين به على طاعة الله، ولا تصطفي لنفسك إلا من تزداد به يقينا وقليل ما هم".

   وقال: "أفضل الأعمال أربعة، بعد أربعة، المحبة لله، والرضا بقضاء الله، والزهد في الدنيا، والتوكل على الله، هذه أربعة، وأما الأربعة الأخرى، فالقيام بفرائض الله، والاجتناب لمحارم الله، والصبر عما لا يعني، والورع من كل شيء يلهي...،" وعن الطهارة الروحية قال لأبي الحسن: "إلزم الطهارة من الشكوك، كلما أحدثت تطهرت، من دنس الدنيا وكلما ملت إلى شهوة أصلحت بالتوبة ما أفسدت بالهوى أوكدت،..."،[16] وقال لأحد الرجال ناصحا: " ...الفرائض مشهورة، والمعاصي معلومة، فكن للفرائض حافظا، وللمعاصي رافضا، واحفظ قلبك من حب الدنيا، وحب النساء، وحب الجاه، وإيثار الشهوات، واقنع بذلك بما قسم الله لك، إذا خرج لك مخرج الرضا فكن لله فيه شاكرا، وإذا خرج مخرج السخط فكن عنه صابرا".

   وعن الصحبة قال: "...واصحب من إذا ذكر، ذكر الله، فإنه يغني به إذا شُهد، وينوب عنه إذا فُقد، ذِكرُه نور القلوب، ومشاهدته مفتاح الغيوب".[

   ولعل من بين أعظم آثار سيدي عبد السلام بن مشيش الدينية، رضي الله عنه، صلاته المعروفة بالصلاة المشيشية، فهي جوهرة طريقه الفريدة، وأكبر بصمة تركها خالدة بعد مماته، وهي عبارة عن "نص فريد من بين التصليات التي سجلها أدب التصوف منذ أواخر القرن السادس الهجري حتى الآن...، في عباراته المنتقاة، ومعانيه الراقية، تنساب فيه العبارات في رقة وعذوبة، محملة بدفق الإيمان وصفاء المحبة، التي ما إن تخالطها الروح وتستعذبها المسامع، حتى تحلق بصاحبها في أجواء من السمو، وملكوت الجمال...، لأنه صادر عن عالم عارف، وبليغ أريب...".

   حيث يستفتح نص صلاته قائلا: "اللهم صل على من منه انشقت الأسرار، وانفلقت الأنوار، وفيه ارتقت الحقائق وتنزلت علوم آدم، فأعجز الخلائق، وله تضاءلت الفهوم، فلم يدركه منا سابق ولا لاحق... ".]

   لقد اشتهرت الصلاة المشيشية بجمال معناها، وجلال مبناها، حيث عكف كثير من العلماء على شرحها وإيضاحها، ولعل أقدم من تناولها بالشرح" العلامة محمد بن أحمد بن داود التونسي المعروف بابن زغدان (ت881ھ) وتوالت شروحها على يد علماء أجلاء من المغرب والمشرق، أمثال العلامة العارف أبي محمد بن علي الخروبي الطرابلسي(ت963ھ)، والعلامة عبد الرحمن بن ملاحسن الكردي(ت1195م)"[وغيرهم كثير.

   مات مولاي عبد السلام بن مشيش شهيدا سنة (622ھ/1225م)،[22] وقيل سنة (625ھ) حيث قتله جماعة وجههم لقتله ابن أبي الطواجن،[23] بالجبل المسمى بالعلم، غرب جنوب مدينة تطوان وهو جبل مرتفع كان معبده ومكان خلوته، وقد دفن بالقرب منه، حيث ضريحه الآن، رحمه الله ونفعنا بسيرته ووصاياه وحكمه. 

   ظل مولاي عبد السلام بن مشيش في المرحلة الأخيرة من عمره، منزويا في الجبال، متواريا عن الأنظار، ككنز مخفي، أحب التفرد بعبادة ربه، والغوص في فضاء أنسه، فلم يخالط الناس إلا لنشر العلم وفضائله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن شاءت قدرة الله تعالى أن يُعرف ويشتهر هذا القطب الجليل في مماته أكثر مما كان عليه في حياته، ويصبح بذلك علما شامخا من أعلام التصوف بالمغرب، وتُتداول صلاته المشيشية في ربوع العالم الإسلامي، ويرجع الفضل في ذلك بعد الله سبحانه وتعالى، لتلميذه الشاذلي، الذي حمل رداء شيخه مولاي عبد السلام بن مشيش، فكان ظاهر وباطن ذلك الرداء الكتاب والسنة، اللذين سلكهما أبي الحسن الشاذلي في تصوفه.

الاثنين، 2 ديسمبر 2024

رباعيات الخيام

■ رباعيات الخيام 

سمعتُ صوتاً هاتفاً في السحر
نادى من الغيب غفاة البشر
هبوا املأوا كأس المنى
قبل أن تملأ كأسَ العمر كفُ الَقَدر

لا تشغل البال بماضي الزمان
ولا بآتي العيش قبل الأوان
واغنم من الحاضر لذاته
فليس في طبع الليالي الأمان

غَدٌ بِظَهْرِ الغيب واليومُ لي
وكمْ يَخيبُ الظَنُ في المُقْبِلِ
ولَسْتُ بالغافل حتى أرى
جَمال دُنيايَ ولا أجتلي

القلبُ قد أضْناه عِشْق الجَمال
والصَدرُ قد ضاقَ بما لا يُقال
يا ربِ هل يُرْضيكَ هذا الظَمأ
والماءُ يَنْسابُ أمامي الزُلال

أولى بهذا القلبِ أن يَخْفِقا
وفي ضِرامِ الحُبِّ أنْ يُحرَقا
ما أضْيَعَ اليومَ الذي مَرَّ بي
من غير أن أهْوى وأن أعْشَقا

أفِقْ خَفيفَ الظِلِ هذا السَحَر
نادى دَعِ النومَ وناغِ الوَتَر
فما أطالَ النومُ عُمرأ
ولا قَصَرَ في الأعمارَ طولُ السَهَر

فكم تَوالى الليل بعد النهار
وطال بالأنجم هذا المدار
فامْشِ الهُوَيْنا إنَّ هذا الثَرى
من أعْيُنٍ ساحِرَةِ الاِحْوِرار

لا توحِشِ النَفْسَ بخوف الظُنون
واغْنَمْ من الحاضر أمْنَ اليقين
فقد تَساوى في الثَرى راحلٌ غداً
وماضٍ من أُلوفِ السِنين

أطفئ لَظى القلبِ بشَهْدِ الرِضاب
فإنما الأيام مِثل السَحاب
وعَيْشُنا طَيفُ خيالٍ فَنَلْ
حَظَكَ منه قبل فَوتِ الشباب

لبست ثوب العيش لم اُسْتَشَرْ
وحِرتُ فيه بين شتى الفِكر
وسوف انضو الثوب عني ولم
أُدْرِكْ لماذا جِئْتُ أين المفر

يا من يِحارُ الفَهمُ في قُدرَتِك
وتطلبُ النفسُ حِمى طاعتك
أسْكَرَني الإثم ولكنني
صَحَوْتُ بالآمال في رَحمَتِك

إن لم أَكُنْ أَخلصتُ في طاعتِك
فإنني أطمَعُ في رَحْمَتِك
وإنما يَشْفعُ لي أنني
قد عِشْتُ لا أُشرِكُ في وَحْدَتِك

تُخفي عن الناس سنا طَلعتِك
وكل ما في الكونِ من صَنْعَتِك
فأنت مَجْلاهُ وأنت الذي
ترى بَديعَ الصُنْعِ في آيَتِك

إن تُفْصَلُ القَطرةُ من بَحْرِها
ففي مَداهُ مُنْتَهى أَمرِها
تَقارَبَتْ يا رَبُ ما بيننا
مَسافةُ البُعْدِ على قَدرِها

يا عالمَ الأسرار عِلمَ اليَقين
وكاشِفَ الضُرِّ عن البائسين
يا قابل الأعذار عُدْنا إلى
ظِلِّكَ فاقْبَلْ تَوبَةَ التائبين.

أقرا ايضا