البخل متعة كبيرة، لا يشعر بها غير البخيل وهو يمارس بخله مع الآخرين ومع نفسه أيضا، تماما كالكرم، فالكريم عندما يلح عليك لكي تتناول الطعام على مائدته، يفرح فرحا كبيرا وأنت تقطم فخذة الضأن، بل وربما يستطعمها وأنت تأكلها، وأحيانا يشير على قطعة بعينها وينصحك بأكلها، فهو أكثر معرفة بجودتها.
وقد حدثنا "أبو عثمان الجاحظ" عن البخلاء بكرم زائد في مجلد كبير، ولم يبخل علينا في حديثه بكل ما يتعلق بالبخل وبالبخلاء، حتى ظننا أننا قد أصبحنا ملمين بالحالات كلها، إلى أن ظهر في حياتنا "توفيق الحكيم"، فعرفنا أنه فوق كل ذي علم عليم، وأن كل من حدثنا عنهم المفكر الموسوعي سابق الذكر، لا يساوون حبة خردلة في بحر بخل "الحكيم" الذاخر بالأسرار كلها.
هو، يكتب بقلم رصاص من النوع سداسي الأضلاع، قصير ومبري من الناحيتين، لونه أصفر كالح، ورصاصه على بياض الورق باهت وكأنه رمادي، وهو من ذلك النوع الذي لا يستهلك، ولا يحتاج لكثير بري، فرصاصه خفيف جدا، ولا يتأثر باحتكاكه بالورقة، وقد يطول عمره لعشر سنوات أو خمس عشرة سنة، لا يكتب إلا به، وكأنه لا يفنى أو يستحدث من عدم، أما لماذا يحرص على الكتابة به، رغم مشقة إمساكه، وعذاب الكتابة به، فذلك لسبين رئيسيين، السبب الأول أنه غير ذي مطمع، فلا يسرقه الكتاب السراقون، فالكتاب من عادتهم أن يختلسوا الأقلام الجميلة والكتب النادرة، ويعتبرون أنها سرقة حلال، ولهم في ذلك أقوال يتفلسفون في إعلانها، أما السبب الثاني، فهو أن "توفيق الحكيم" لو فقده أو نسيه، لا يحزن عليه.
و"الحكيم" ليس بخيلا عاديا، بل هو بخيل استثنائي، فلا يوجد في الدنيا كلها بين البخلاء من اتخذ من البخل فلسفة مثله، وفلسفته البخلية هذه قائمة على افتضاح الأمر لا كتمانه، وقد باح، ذات مرة، بفلسفته تلك لصديقه "يوسف إدريس"، حيث قال له بكثير من التوضيح:
إن البخيل الذي يحاول أن يكتم أمر بخله عبيط، لأنه سيدفع الناس جميعا لانتقاده والنيل منه دائما لبخله، أما الذي يعرف الناس عنه جميعا أنه بخيل، فإن أحدا لا يذكره بسوء لبخله، وتتحول المسألة من رذيلة مضطر أن يدافع عنها، إلى نكتة، بل إلى ما هو أكثر، إلى حقيقة لا يناقشها أحد، توفر عليك متاعب الحرج، من كل إنسان تصادفه، وبهذا تبخل دون إزعاج أو استنكار، وتزاول متعتك تلك علنا، وعلى رءوس الأشهاد، ودون ذرة لوم من أحد.
لكن البخل له أضرار بيئية، لا تقتصر على البخيل وحده، بل قد تتعداه لمن حوله، فيتأذون بسبب من هذا البخل الذي لا ناقة لهم فيه ولا جمل، لدرجة استنان اللوائح، وتقنين القوانين، على مقاس أحد البخلاء، بصرف النظر عن إيذاء الآخرين من هذه السنن المتبعة، والذي حدث في جريدة الأهرام، وتحديدا في الطابق السادس من مبناه العتيق، أكبر دلالة على هذا الأمر العجائبي، فقد أصبح من الشائع أن كبار الكتاب في مصر والوطن العربي الذين يكتبون في الأهرام، ليس لهم سكرتير ينظم لهم مواعيدهم، وينوب عنهم في المشاوير الصغيرة، أو سكرتيرة ذات عينين وسيعتين، تمنحهم ابتسامة تشجعهم على مواصلة الابتكار، وتضع على مكاتبهم وردة حمراء ذات دلالة إيحائية، في الوقت الذي يتمتع فيه مديرون صغيرون، ورؤساء أقسام عاديون، بطاقم كامل من السكرتارية، وقد تضايق "يوسف إدريس" من هذا الأمر جدا، إذ فكر كثيرا في هذا الموضوع الشائك، وقرر أن يعرف لماذا يُحرم ساكنو الطابق السادس في الأهرام من هذه النعمة التي توفر عليهم الوقت والجهد، وتجعلهم يقفون في طوابير طويلة ليشتروا طابع بريد، في حين أن السكرتير يمكنه أن ينجز مثل هذه الأمور ببساطة، ويتفرغون هم للإبداع، ابتدأ يطرح السؤال على زملائه الكتاب، وكانت إجابتهم واحدة، هذه مسألة مبدأ، وكان كل منهم يحيله للسابق عليه، حتى وصل إلى "نجيب محفوظ"، ولما رد عليه بمسألة المبدأية هذه، سأله متعجبا:
ومن الذي وضع هذا المبدأ؟
أجابه "نجيب محفوظ" مبتسما:
أنا.
وواصل موضحا:
لما عرض علىّ الأستاذ "محمد حسنين هيكل" أن يخصص لي سكرتيرة، رفضت، وأجبته بأن "توفيق الحكيم" ليس له سكرتيرة، وبالتالي، فأنا أسير على خطاه، ومن يومها صار الأمر مبدأ.
"توفيق الحكيم" يتحجج بحجج كثيرة لكي لا يركب تاكسيا يوصله لبيته، لذا، ما إن لمح "يوسف إدريس" يهم بالمغادرة، حتى سار معه في الطرقة الدائرية، لكي يوصله بسيارته مجانا، و"يوسف إدريس" وجدها فرصة ليفاتحه في الموضوع، فسأله:
قل لي يا أستاذ، لماذا رفضت أن يكون لك سكرتيرة، وجعلتنا جميعا نعاني كل هذه المعاناة؟
أسند "الحكيم" رأسه إلى مقعد السيارة، وراح يتذكر أصل الموضوع، وسرد عليه القصة بحذافيرها، قال له بهدوئه المتفلسف:
في عام 1942 ذهبت لزيارة الأستاذ "محمد التابعي" في مكتبه بمجلة آخر ساعة، وأثناء كلامه مع سكرتيرته، لاحظ أنها تتثاءب، فاستفسر منها عن سبب ذلك، فأخبرته أنها كانت سهرانة طوال الليل بسبب حفلة عيد ميلادها، فعقد حاجبيه مندهشا وهو يقول لها:
لماذا لم تقولي لي؟
أجابت ببساطة:
اعتقدت أنه أمر عابر.
فضرب "التابعي" يده في جيبه، وأخرج ورقتين كل منهما من فئة العشرة جنيهات، وناولهما لها وهو يقول:
هذا المبلغ بدل هدية متواضع، وقد سجلت التاريخ في ذاكرتي، لكي لا تفوتني هذه المناسبة في العام المقبل.
سأله "يوسف إدريس":
وماذا في هذا؟
ضحك "الحكيم" وهو يوضح الأمر لمحدثه:
كان هذا في الزمان القديم، عندما كانت السكرتيرات غلبانات، الآن السكرتيرات يحتفلن بعيد ميلادهن مرتين في العام، وأحيانا ثلاث مرات، وأكع أنا هدايا تكلفني أوراقا من فئات العشر والعشرين جنيها، وحتى لو تجاهلت أنا الأمر، فإنهن خبيثات جدا، ما إن يأتي عيد ميلادي، حتى تحضر لي الواحدة منهن كرافتة لا تكلفها أكثر من جنيه، ويكون علىّ أن أردها بأضعاف أضعاف أضعافها.
لكن "يوسف إدريس" رصد حالة بخل أخرى موجودة في الطابق السادس، حالة لم ينتبه لها أحد على الإطلاق، لكنه وبسبب اهتمامه بالتفاصيل بحكم كونه قاصا من طراز فريد، استطاع أن يضبطها في حالة تلبس مكتمل، فالناس كلهم يعرفون أن "توفيق الحكيم" بخيل، لكن "يوسف إدريس" استطاع أن يعرف أن "نجيب محفوظ" بخيل أيضا، لكن بصيغة أخرى.
اعتاد الكتاب أن يجتمعوا كل خميس في غرفة "توفيق الحكيم" التي تحمل رقم 606، تلك الغرفة التي أصبحت غرفة "نجيب محفوظ" بعد رحيل "الحكيم" وحصول "النجيب" على نوبل، ولما كان الكتاب كلهم يعرفون الحالة البخلية التي يتمتع بها مضيفهم، فقد كان أي واحد منهم يتولى المحاسبة على المشاريب، ويبدو أن الدور كان على "نجيب محفوظ"، فلما أتى عم "بدوي" سأله "نجيب" عن الحساب، فقال له بلا مبالاة:
أربعة قهوة، وثلاثة شاي.
فرد عليه "نجيب محفوظ" بمبالاة كبيرة:
لا، أربعة شاي وثلاثة قهوة.
العارفون ببواطن الأمور يدركون جيدا الفارق الكبير بين الجملتين، فالقهوة بثلاثة قروش، بينما الشاي بقرشين اثنين، وبحسبة بسيطة يتضح لنا هذا الفارق الكبير بين حساب جملة عم "بدوي" التي تعني أن المطلوب دفعه هو ثمانية عشر قرشا، بينما الحساب حسب جملة "نجيب محفوظ" يصبح سبعة عشر قرشا، وهو فرق لو تعلمون عظيم بالنسبة للبخيل، وهكذا، ابتدأ "يوسف إدريس" يهتم كثيرا بمتابعة أمر "نجيب" في الجلسات التوفيقية كل يوم خميس، فاكتشف أنه لا ينخرط غالبا في النقاشات المطروحة، يظل ساهما يفكر في أمر القهوات والشايات المشروبة، واكتشف أنه، لكي ينفي عنه صفة البخل، يبادرك كلما دخلت إلى مكتبه، سائلا:
مضبوط ولا سادة؟
فتجد نفسك مخيرا بين القهوة والقهوة، وهو يظن أنه بذلك ينفي عنه صفة البخل، فيخيرك بين غاليين، لا بين غال ورخيص.
أما المشهد البانورامي الذي خرج به القصاص المتمرس من هذه الحكاية، فهي أن "توفيق الحكيم" في جلسته الأسبوعية مع الكتاب، يكون كالملك المتوج، يقهقه ويطلق النكات، مستمتعا بصهللة لا متناهية ببخله، بينما "نجيب محفوظ" يعيش محنة كبيرة، وهو يحسب في سره حساب المشروبات، التي قد تصل أحيانا إلى درجة المشروبات الغازية، خاصة إذا حضر "إحسان عبد القدوس"، ويظل طوال الجلسة معذبا ببخله.
إشارة:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق