الرائد الثقافي / عبد الله فكري
كان حلمه نسمة هواء عليل يستنشقه
حصل على قطعة أرض بدلا من المعاش
تصدي لفوضي التأليف والألفاظ الأجنبية
أول الداعين إلي تأليف المجامع اللغوية
عبد الله فكري… أحد رواد الثقافة الذين قامت النهضة في مصر علي أكتافهم وكرسوا حياتهم لخدمة العلم والدين والأدب. لقب في زمانه بابن سهل لسهولة طبعه وسهولة فنه في الشعر والنثر. كان القوة التنفيذية لما يضع علي باشا مبارك من خطط إصلاحية, واليد العاملة المنفذة وإن نسبت هذه الكتب إلي علي باشا مبارك وحده- علي حد قول أحمد أمين بك في مقال له في مجلة الهلال عن عبد الله فكري.
ولد عبد الله فكري عام 1834م من أب مصري وأم من بلاد المورة باليونان, وكانت اليونان تابعة لتركيا زمنا طويلا… فكان عبد الله فكري يجيد العربية عن أبيه والتركية عن أمه.
كان أبوه محمد أفندي بليغ مهندسا كبيرا في السلكين المدني والعسكري, نشأ أزهريا ثم دخل المدارس المدنية وتعلم فيها الهندسة, وكان مهندسا في الجيش فكان يسافر مع الحملات العسكرية, وهذا هو السبب في زواجه بهذه (المورية)… وذلك السبب في أن عبد الله فكري ولد في مكة عندما شارك والده في الحملة العسكريةالوهابية التي أرسلت إلي الحجاز… وعاد الأب إلي مصر ثم ارتحل إلي رحاب الله وتركه طفلا فكفله بعض أقربائه وواصل طريق التعليم الديني حتي لا يقطع عليه طريقا بدأه في الحجاز.
وظل يواصل دراسته بالأزهر وأخذ العلم من أجلاء الشيوخ في زمانه, ثم عين مترجما في الحكومة يترجم من التركية إلي العربية, والتحق بمعية سعيد باشا, ثم بمعية إسماعيل, وسافر معه إلي الآستانة, ثم عينه مدرسا لأولاده توفيق وحسين وحسن.
ذلك القدر هو الذي هيأ لعبد الله فكري أن تتكشف فيه المواهب. ثم انتقل إلي المعارف وكيلا لديوان المكاتب الأهلية مع علي باشا مبارك.
لم يكن عبد الله فكري مجرد موظف عادي يملأ الكرسي إنما كان موظفا متيقظا نشيطا وارتفع مستوي المكاتب الأهلية في وكالة عبد الله فكري لديوانها وتعدلت في برامجها بعد أن كانت نوعا من الكتاتيب, وأقبل الناس علي إدخال أبنائهم فيها, وفي عام 1876 اختار مصطفي رياض باشا ناظر المعارف عبد الله فكري وكيلا لنظارة المعارف, وجاء علي مبارك باشا وزيرا للمعارف عام 1878 وعبد الله فكري لا يزال وكيلا لها, وقد جمع العمل بين الرجلين الكبيرين… ثم انضم إلي أعضاء المجلس العالي للمعارف الذي أنشئ عام 1881 ولا شك أن اشتراك عبد الله فكري في المجلس الجديد أعده ليدرس حاجات التعليم في البلاد, ولما جاءت وزارة محمود سامي البارودي عام 1882 عين عبد الله فكري وزيرا للمعارف. هذه هي حياته الرسمية, أما حياته العامة فكانت أوسع مدي وأجل فائدة.
لقد شاهد البلاد تغلي قبيل الثورة العرابية وصاحب جمال الدين الأفغاني, وتشرب من آرائه, ثم حدثت الثورة العرابية فاحتار في موقفه منها كما احتار الشيخ محمد عبده, فعبد الله فكري معلم الخديو توفيق ومتصل به أشد اتصال وكان هذا يقتضي منه البعد عن الثورة والثائرين.
وكان صديقا حميمالمحمود سامي البارودي رئيس الوزارة الثورية, وقد أشركه معه في الحكم… لهذا غلبته الحيرة, ولهذا سار سيرا رزينا يسالم الثورة بحكمة, ولا يشارك من يجاهرون بالغضب من الخديو توفيق… فلما انجلت المعركة عن فشل الثورة كان طبيعيا أن يتهم بأنه من أعوان الثورة, ومن الطبيعي أيضا أن يبادر توفيق في العفو عنه وقبول إعتذاره لشدة صلته به, ولأنه لم يكن عنيفا في ثورته إذ هو كما سماه الناس ابن سهل وتاب بعد ذلك عن الاشتغال بالسياسة, وقصر نفسه علي الإصلاحات الداخلية فجد هو وصديقه علي باشا مبارك في إصلاح مراكز التعليم ومبانيها ومعلميها وأساليب الدراسة فيها فنقلاها بذلك خطوة جديدة.
لم يكن زمانه كزماننا, فرجال الدين كانوا يتدخلون في كل نظرية علمية, يجادلون فيها باسم الدين, وكان لهم سلطان كبير وصوت مسموع لذلك لقي عبد الله فكري عناء في سبيل تعليم أن الأرض كروية لا مسطحة, وأن السماء فضاء وتفسير ظاهرة الكسوف والخسوف, ولم ينجح حتي ساق الأدلة علي ذلك من قول فخر الدين الرازي والغزالي والشهاب الخفاجي وأمثالهم.
ولا ينكر المنصفون أن البحث الذي قدمه عبد الله فكري كان من العوامل القوية الموجهة لحركة إدخال العلوم الحديثة في الفكر العربي الحديث…
وإذا كان يعقوب صروف من الأصوات العربية التي كتبت في العلم الطبيعي فإن عبد الله فكري الكاتب الشاعر الأزهري كان من الأصوات القوية الأولي في الدعوة نفسها لأن مرامي بحثه العلمي العظيم كانت تتجه إلي مسألة في غاية الأهمية وهي التوفيق بين العلم والدين وإثبات عدم المخالفة بينهما, حتي لا يقف هذا التباين حجر عثرة في طريق التقدم العلمي المطلوب وتتحجر المعارف العلمية إلي ما يشبه الجمود كما ذكر محمد عبد الغني حسن في كتابه أعلام العرب عبد الله فكري.
كما تصدي لفوضي التأليف واحتياج ميدان النشر للمؤلفات إلي هيئة علمية خاصة, فكان عبد الله فكري أول الأصوات العربية وأقواها في الفكر العربي الحديث لإقامة نشر الكتب علي أسس علمية… حتي يرتفع مستوي الكتاب إلي ما يرجي له من دور فعال في نهضة البلاد. كما جاهد في قضية التخلص من الألفاظ الأجنبية التي كانت تفد علي البلاد واقترح لذلك أن يكون وضع هذه الألفاظ غير ذاتي ولا مرتجل ولا يترك لأهواء المترجمين… وإنما تتولاه هيئة كالجمعية التي اقترحها للتأليف والنشر…
وبهذا كان عبد الله فكري من أول الداعين إلي تكوين المجامع اللغوية للقيام بمهمة وضع ألفاظ عربية جديدة لمستحدثات العلوم ولم يفت عبد الله فكري أن يشير إلي فضل أحمد فارس الشدياق الذي سبقه في هذه الدعوة.
كانت له ناحية طريفة وهي فكاهته الحلوة ونوادره الظريفة البلاغية ليتناقلها أهل القاهرة فتكون مصدر بهجة, وكان لعبد الله فكري في ذلك قصب السبق… ومن مواقفه وكتاباته الساخرة نقده للشيوخ المتصابين فتراه يبدع في الحملة عليهم, فيصف شيخا كبيرا من فقراء الفلاحين كان يتصابي بأنه ناهز الستين وغالط في عشرين, ويري شيخا مسنا يتزوج فتاة صغيرة فقضت عليه ومات فيقول في هذا شعرا:
ويح شيخ زوجوه
منهم ظلما صبية
فارق الدنيا سليما
من أذاها وهي حية
ولا ننسي هنا التورية اللطيفة في كلمة (حية) فإما تكون بمعني أفعي, وإما بمعني باقية علي قيد الحياة.
وعاش وهو يتمني أن يكون له قطعة أرض قريبة من القاهرة يستمتع فيها بالهواء العليل والمنظر الجميل وينعم فيها بالهدوء, ثم نال بغيته عندما منحته الحكومة قطعة من الأرض بدلا من المعاش… وتوفي عام 1890 وجرت العادة علي أنه إذا مات رجل ذو شأن تسابقت الأقلام إلي تأبينه ورثائه لذلك اشترك في رثاء عبد الله فكري الكثير من شعراء ذلك العهد وأدبائه وعلمائه…
ولقد اشتهرت مرثية حفني ناصف لعبد الله فكري شهرة عظيمة وبلغت ستة وخمسين بيتا ومطلعها:
ليدع المدعون العلم والأدبا
فقد تغيب عبد الله واحتجبا!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق