علي محمود طه ..
أثر جمال الطبيعة على أشعاره
أتيح للشاعر الرومانس الكبير/ علي محمود طه بعد صدور ديوانه الأول «الملاح التائه» عام 1934م فرصة قضاء الصيف في السياحة في أوروبا يستمتع بمباهج الرحلة في البحر ويصقل ذوقه الفني بما تقع عليه أشعاره كانت مثار إعجاب الشعراء.
علي محمود طه من أعلام مدرسة أبولو التي أرست أسس الرومانسية في الشعر العربي ويقول عنه أحمد حسن الزيات: «كان شابًّا منضور الطلعة، مسجور العاطفة، مسحور المخيلة، لا يبصر غير الجمال، ولا ينشد غير الحب، ولا يحسب الوجود إلا قصيدة من الغزل السماوي ينشدها الدهر ويرقص عليها الفلك».
كان التغني بالجمال أوضح في شعره من تصوير العواطف، وكان الذوق فيه أغلب من الثقافة. وكان انسجام الأنغام الموسيقية أظهر من اهتمامه بالتعبير.
قال صلاح عبد الصبور في كتابه «على مشارف الخمسين»: قلت لأنور المعداوي: أريد أن أجلس إلى علي محمود طه. فقال لي أنور: إنه لا يأتي إلى هذا المقهى ولكنه يجلس في محل «جروبي» بميدان سليمان باشا.
وذهبت إلى جروبي عدة مرات، واختلست النظر حتى رأيته.. هيئته ليست هيئة شاعر ولكنها هيئة عين من الأعيان. وخفت رهبة المكان فخرجت دون أن ألقاه، ولم يسعف الزمان.
يرى د. سمير سرحان ود. محمد عناني أن «المفتاح لشعر هذا الشاعر [علي طه] هو فكرة الفردية الرومانسية والحرية التي لا تتأتى بطبيعة الحال إلا بتوافر الموارد المادية التي تحرر الفرد من الحاجة ولا تشعره بضغوطها.. بحيث لم يستطع أن يرى سوى الجمال وأن يخصص قراءاته في الآداب الأوروبية للمشكلات الشعرية التي شغلت الرومانسية عن الإنسان والوجود والفن، وما يرتبط بذلك كله من إعمال للخيال الذي هو سلاح الرومانسية الماضي..
كان علي محمود طه أول من ثار على وحدة القافية ووحدة البحر، مؤكداً على الوحدة النفسية للقصيدة، فقد كان يسعى - كما يقول الدكتور محمد حسين هيكل في كتابه ثورة الأدب - أن تكون القصيدة بمثابة "فكرة أو صورة أو عاطفة يفيض بها القلب في صيغة متسقة من اللفظ تخاطب النفس وتصل إلى أعماقها من غير حاجة إلى كلفة ومشقة..
كان على محمود طه في شعره ينشد للإنسان ويسعى للسلم والحرية؛ رافعاً من قيمة الجمال كقيمة إنسانية عليا..».
لحِن وغنّى له الموسيقار محمد عبد الوهاب عددا من قصائده مثل **الجندول**، و**كليوباتره**، فلسطين.
تأثر طه بشعراء الرمزية أمثال بودلير، ألفريد دي فيني، شيللي، وجون مانسفيلد.
وقد ترك أثرا كبيرا على الشعراء الذين جاؤوا بعده فقد كتب في جميع الأغراض التي شكلت ميداناً لغيره من الشعراء، كالغزل والرثاء والمدح والفلسفة والحكمة والتأمل. وتنوعت قوافيه وفنونه، لكن أكثر ما يشد القارئ هي تلك اللغة والصور الحسية التي يرسمها الشاعر في قصائده ناهيك عن تلك النزعة الرومانسية التي بدت غامرة في ديوانه الملاح التائه والذي كان صدى لرغبات له واهتماماتهم، فيقول:
أيّها الملاح قم واطو الشّراعا
لم نطو لجّة اللّيل سراعا
جدّف الآن بنا في هينة
وجهة الشّاطئ سيرا واتّباعا
فغدا يا صاحبي تأخذنا
موجة الأيّام قذفا واندفاعا
عبثا تقفو خطا الماضي الذي
خلت أنّ البحر واراه ابتلاعا
في هذه القصيدة (الملاح التائه) تتبدى وحشة الشاعر وخوفه من المجهول ورغبته الشديدة في اغتنام الفرصة والفوز بملذات الحياة قبل فوات الأوان.
أما قصائده الوطنية فهي كثيرة تكشف عمق التصاقه بوطنه وحبه له. ولعل قصيدة (بعد مائة عام) التي قيلت في ذكرى مرور مائة عام على وفاة محمد علي الكبير ما يكشف عن شدة تعلقه بمصر وبرموزها.
من هذه الروح وهذا الجبين
يضيء في مصر منار السنين
أشعة من بسمات المنى
ومن رجاء كالصباح المبين
ومن قوى مشبوبة كاللظى
عارمة لا تنثني، لا تلين
خطت بناء الملل ثم ارتقت
تبني له المجد الرفيع المكين
و لعل قصيدة الجندول التي غناها محمد عبد الوهاب وهي من أجمل القصائد في الشعر العربي الحديث بل أنها كانت السبب في شهرة الشاعر.
أين من عينيّ هاتيك المجالي ****** يا عروس البحر يا حلم الخيــــال
أين عشاقك سمّار الليالــــــي ****** أين من واديك يا مهد الجمــــــال
موكب الغيد وعيد الكرنفـــــال ****** وسري الجندول في عرض القـنال
بين كأس يتشهى الكـــــرم خمــــــــره
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق